الأساتذة والطلاب الأعزاء،
منذ أكثر من مئتي يوم وسؤال واحد مهم وخطير يؤرّقنا نحن هنا في منطقة الشرق الأوسط، وهو: كيف يمكن لما يُسمى بالعالم المتحضر والنظام الفكري وقانون حقوق الأنسان أن يقف صامتاً إزاء الإبادة الجماعية التي تُرتكب منذ ما يزيد على 200 يوم في غزّة وفلسطين ضدّ النساء والأطفال الضعفاء والمدنيين الأبرياء، دونما أيّ ردّة فعل أو محاولة حقيقية لإيقاف هذه الإهانة المخزية بحقّ الإنسانية جمعاء. إذ يرتكب العدو الصهيوني يومياً عشرات المجازر التي تُزهق آلاف الأرواح من صحفيين وكوادر طبية من أطباء وممرضين وعاملين، ورغم كلّ هذا تواصل الولايات المتحدة إغراق العدوّ الصهيوني بالمال والسلاح فضلاً عن الدعم المعنوي الذي يمكّنه من الاستمرار في ارتكاب أسوأ ما شهدته البشرية من إبادة جماعية وتطهير عرقي في العصر الحديث.
إنّ ما يقوم به الغرب اليوم يجعلنا جميعاً نشعر بالعجز المطلق والخيانة ليس لنا فحسب، بل خيانة الغرب لقيمه التي طالما ادّعى تعزيزها والترويج لها بما يخدم مصلحة البشرية جمعاء. لقد جعلتنا الأشهر السبعة الأخيرة القاسية والمريرة نشكّك في كلّ ما كان الغرب يدّعيه وينسبه إلى نفسه من حرية الصحافة وحقوق المرأة والطفل وحقّ الإنسان في حياة كريمة وآمنة. لقد بدا الشعب الفلسطيني وكأنه يعيش في جزيرة نائية مجهولة برغم كلّ ما يتعرّض له إلى أن تمكن طلاب جامعة كولومبيا من كسر القيد بموقفهم الشجاع العظيم الذي تحدّوا به الصمت العالمي والتآمر والخذلان الدولي، معلنين تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، ومطالبين بإيقاف فوري للإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يجري في غزّة، الأمر الذي كان حافزاً لقيام العديد من الجامعات في أنحاء العالم، أساتذةً وطلاباً وموظفين، بتظاهرات داعمة للشعب الفلسطيني مطالبين بوقف فوري للمجازر والمذابح اليومية التي تُرتكب هناك.
إنّ تحرّككم هذا، أيها الأساتذة والطلبة الأعزاء، أعاد إلينا الثقة بالضمير الإنساني، إلا أنّ ردّة فعل الأنظمة الغربية وطريقتهم في التعامل مع ما قمتم به أثبت لنا بما لا يدع أيّ مجال للشكّ مدى التدهور الأخلاقي الذي وصلت إليه تلك الأنظمة المتحالفة مع الكيان الصهيوني. فمع قيامهم بالتخويف ونشر الرعب منذ وباء كورونا، قاموا باختلاق أساطير حول هجمات محتملة على اليهود رغم وجود الطلبة والأساتذة اليهود في الصفوف الأولى من هذه التحرّكات النبيلة، غير أنّ هذا لم يمنع وسائل إعلامهم المضلِّلة من اتهام تلك التحركات بمعاداة السامية. لقد أثبتت هذه التظاهرات أنّ القضية ليست بين اليهود والمسلمين، بل إنّ محور القضية هو الاحتلال والعنصرية والانتهاك الأسوأ لحقوق الإنسان في العصر الحديث.
حينما تعرّض اليهود إلى الاضطهاد في أوروبا وجدوا ملاذهم الآمن عند العرب فكانوا مواطنين في معظم الدول العربية يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين ويسهمون في رفاهية وازدهار تلك البلدان. إنّ الشرق الأوسط ومنذ فجر التاريخ مهد الديانات السماوية الثلاث، حيث يعيش المسلم مع المسيحي واليهودي، وتجد المسجد إلى جانب الكنيسة، والجميع يعبد إلهاً واحداً ويؤمن به وإن تعددت طرق وأساليب العبادة. لم نعرف يوماً لغة الطائفية ولم نسمع بها إلى أن جاء الاحتلال الأمريكي إلى العراق حينما سمعنا أول مرة تقسيم العراقيين إلى “سنّة وشيعة”، وبدأ الحديث عن المثلث السنّي، الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، وهذه لغة غريبة ومنبوذة لأيّ شخص أصلي في بلد عربي، وهي اللغة التي يعمل الإرهابيون على زرعها في بلداننا.
“معاداة السامية”؛ ذلك المصطلح الذي صاغه وروّج له أولئك الذين أعطوا لأنفسهم الحقّ في اقتلاع السكان الأصليين واستخدام أراضيهم ومواردهم بدعوى أنها ملك لهم. لم يكن العرب قط معادين للسامية، فهم ساميون أصلاً، وكلّ من يستخدم تلك التحركات لنشر العداء ضدّ اليهود لا علاقة له بالإسلام، فالقرآن الكريم أثنى على جميع الرسل وأتباعهم من الديانات كلّها وذكرهم باحترام شديد، ولم يؤكّد على الدين بل على الإيمان: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. إنّ أيّ محاولة لاختلاق الخوف وتعميمه ونشره بين أتباع الديانات الأخرى ما هو إلا أداة سياسية مشبوهة وتستخدم لأغراض مدمّرة للشعوب. لقد اصبحت وسائل الإعلام الغربية والتي يُفترض أنها وسائل لتسهيل التواصل بين مختلف الناس في مختلف البلدان، عائقاً في طريق إيصال حقيقة ما يجري على أرض الواقع إلى الجماهير في كلّ مكان.
كان الثمن الذي دفعه بعضكم، أيها الأساتذة والطلاب باهظاً جداً؛ فبعضكم مثلاً خسر فرصته في إكمال دراسته، لكنّ موقفكم الإنسانيّ الذي سيخلّده الدهر أعاد لنا الثقة في الإنسانية وفي قدرتها على الاعتراض بشدّة على الظلم الفادح مهما بلغ من قوة وإمكانات. لقد برهنت هذه التحركات أنّ صوت الناس سوف يتغلّب على صوت الحكومات التي لا يمكنها تجاوز مصالحها المادية الضيقة وتحيّزاتها المتجذّرة وشعاراتها الواهية. لقد برهنتم أنكم لا تنتمون إلى نفاق الدولة التي تروي سرديات معينة وتتصرف بواقع مخالف تماماً لسردياتها. كلّ ما تعمل عليه الأنظمة الغربية الآن هو نشر الرعب والخوف بين الأفراد (خوف اليهودي من المسلم وخوف المسلم من اليهودي، وخوف المسيحي من المسلم، وخوف الغربي من الشرقي) خدمةً لمصالح القوى الظلامية الصهيونية التي تغفل أيّ تشابه وتناغم بين القلوب وفي العقول، وتعمل على إشعال كلّ ما من شأنه أن يفرّق بينهم ويضعفهم ويعيق أيّ تحرّك لهم في الاتجاه الطبيعي الصحيح الذي يتعارض مع مصالح تلك القوى الظلامية. قال الله في القرآن الكريم: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وقال: “ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم” فالاختلاف في اللون أو في الأصل أو الدين أو العرق ما هو إلا إثبات لعظمة الخالق وليس لتصنيف الناس ووضعهم في درجات أعلى وأدنى، وإنّ من يستخدم هذا التصنيف هو عنصريّ بغيض يهدف إلى تحقيق مصالح وأغراض شريرة لا تمتّ إلى المصلحة الإنسانية بأيّ صلة.
أدعوكم أيها الأساتذة والطلاب الأعزاء إلى مواصلة التحرّك، فإنّ التاريخ سيمجّدكم ويخلّد ذكركم. استمرّوا في النضال علّ هذا العالم يصبح أفضل بنضالكم، وعلّكم تتمكنون من صياغة أنظمة مستقبلية قائمة على الأخلاق والمصلحة الإنسانية عبر الحدود والبلدان والمصير المشترك المشرق لكل من يعيش على هذا الكوكب.