مقالات

الحقيقة والمفهوم: حرب إعلامية

في عام 2005 اجتمعتُ في مقرّ وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن مع السيد وليم بيرنز، مساعد وزير الخارجية الأميركي في حينه، وكان معه إليوت أبراهام، الذي كان المتحدث الأساسي في بداية اللقاء، حيث أخذ يكيل التهم لسورية ودورها في التدخل بالشأن العراقي ضدّ القوات الأميركية هناك، وبعد أن سرد بعضاً مما في ذهنه، ـ استوقفته وقلت له قبل أن تكمل هذا السرد أودّ أن أقول لك إن ما تقوله لا علاقة له بحقيقة الأمور أبداً، وإنّ الواقع ينفي كلّ ما ورد على لسانك. فتوقّف عن الكلام ونظر إليّ نظرة متأملة ثم قال وبكلّ ثقة: وما أهمية الحقيقة؟ ومن يُعير وزناً للحقيقة؟ المهمّ هو ما يعتقده الناس ويصدقونه! كانت هذه هي المرة الأولى التي أواجه فيها شخصاً في موقع المسؤولية يصرّح أنه لا يعير للحقيقة أهمية، ولا يقيم لها وزناً. ولكن وبعد ذلك، أخذت أتابع في الإعلام الغربي صياغات المفاهيم التي يتبنونها ويعتمدون على ترويجها، وأعلم علم اليقين أنهم لا يقيمون للحقائق التي نسرد أو نسطّر وزناً؛ فأجهزة الإعلام الغربية تروّج لقصص ملفّقة وأكاذيب عن سابق علم بهدف يخدم مصالح الفئات الحاكمة وخاصة الحكومة الأمنية العميقة. ولكنّ هذا لا يعني أبداً أننا لا يمكن أن نبدأ على الأقل بمواجهة حربهم الإعلامية، بعد أن نضع رؤية متكاملة حول هذه المواجهة. وقد بدأت روسيا والصين منذ سنوات بفعل ذلك، حيث أصبحت الآرتي «روسيا اليوم» قناة مهمّة يُناقش منعها في برلمانات الدول الأوروبية، وتُتخذ إجراءات بحقّها نتيجة التأثير المتصاعد لها على شعوب الدول الأوروبية، كما أن القناة الصينية باللغة الإنكليزية (CGTN شبكة التلفزيون الصيني العالمي)، التي لديها جمهور عالمي اليوم يعادل جمهور البي بي سي، والسي إن إن مجتمعتين، ولكنّ هذا لا يعني أن المعركة قصيرة الأمد، أو أنها ستحسم اليوم أو غداً؛ فقد بدأ الغرب، والأهم بينهم الصهاينة، بمناقشة السيطرة الإعلامية والمالية على العالم منذ مؤتمر بازل عام 1893، أي قبل أكثر من قرن وربع القرن من الزمن، وخصّص الصهاينة الأموال الطائلة لأذرعهم الإعلامية، ولذلك فإنه من الطبيعي أن نشعر اليوم أننا مهما فعلنا فلن يكون التأثير لافتاً، أو قد لا يكون ملحوظاً. إلا أن الأمر الذي يجب الانتباه إليه هو أن النشاط الإعلامي المستقلّ، الذي يعمل على فضح مفاهيمهم وأكاذيبهم، مؤثّرٌ ومزعجٌ لهم أكثر ممّا نتصوّر. وبما أن العمل تراكمي، ويحتاج إلى خبرات ووقت وعمل مستدام، فإن الحلّ الوحيد الذي نمتلكه هو الاستمرار بالمحاولة مهما بدت النتائج متواضعة. إن قرار سورية وروسيا بأخذ شهود الكيماوي إلى لاهاي، وفضح فبركات وأكاذيب الدول الغربية بهذا الموضوع هو أمر صادم للغرب، ومؤثر لدى الشعوب الغربية، ويعتبر خطوة جريئة ومتقدّمة في خوض غمار هذه الحرب. ولا شكّ أنه ليس من المنتظر من وزراء خارجية الدول الغربية وإعلامهم المنضبط وفق تعليمات مفبركة وتلفيق أن يعترفوا بحقائق الأمور بعد أن أغرقوا الساحات الإعلامية بفبركاتهم، ولكن، ومن دون شكّ، لن يتجرؤوا على طرح مثل هذه المسرحية مرة أخرى على الساحة الدولية لأنهم سوف يخشون فضح أكاذيبهم من خلال روايات شخصية لا يمكن لهم إنكارها أو تحويرها.

ومن هذا المنطلق يمكن لنا أن نعمل على إحداث شروخ في رواياتهم وإظهار التلفيق بها، وذلك لتقويض مصداقية ما يعملون على ترويجه من أكاذيب، وهذه مرحلة مهمة لا يُستهان بها وبتحقيقها إن أمكن. فحين يتحدّث العثماني الجديد، والمسؤول عن تمرير الإرهاب إلى سورية، بأن الولايات المتحدة قد أرسلت خمسة آلاف شاحنة أسلحة، وألفي شحنة جوية تحمل أسلحة إلى شمالي سورية بذريعة مكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي، لا بدّ لنا من أن نردّ بضاعتهم إليهم، وفي إعلامهم أو في أي قنوات متاحة، ونشغل ما نستطيع من المساحة الإعلامية بهذه الأخبار التي تقود بالنتيجة إلى فضح أكاذيبهم. وحين يتحدث رئيس وزراء الظلّ في البرلمان البريطاني بلغة تعبّر عمّا نبتغيه، ويُحرج رئيسة وزرائه، لا بدّ لنا من أن نعتبر هذا خبراً جيداً، لا نسمح له أن يموت بسرعة. وفي أغلب الأحيان لا تقف تصريحاتهم أمام المنطق أبداً، ومن السهل جداً تعريتها؛ فحين يقول وزير الدفاع البريطاني، توبياس إيلوود، على قناة البي بي سي: «هل يمكن شنّ غارة محدودة تؤدي إلى تقليص معاناة الناس؟ هذا هو بالضبط ما فعلناه عندما ضربنا مواقع إنتاج الأسلحة الكيميائية من دون استهداف القصور أو المباني البرلمانية على سبيل المثال»، هل هناك عاقل يتحدث عن عدوان جوي يؤدي إلى تقليص معاناة الناس؟ وهل هناك من يظنّ، ولو للحظة، أنهم ضربوا مواقع إنتاج الأسلحة الكيميائية؟ ولو كان الأمر كذلك لكانت النتائج الكارثية واضحة للعالم أجمع. هذا يعني أن فبركاتهم لا تصمد أمام أدنى درجات المنطق والتحليل العلمي. والوجه الآخر للتصدّي لإعلامهم السائد هو أن نقرأ بين السطور، ونبرز ما يعملون على إخفائه؛ ففي حمأة كلّ ما يجري في المنطقة يجتمع قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل، مع مسؤولين عسكريين إسرائيليين حيث وصل فوتيل الإثنين إلى إسرائيل في زيارة لم تُعلن مسبقاً. ولا تجد خبراً أو تفصيلاً أبداً عن هذه الزيارة لأن مجريات الأعمال العسكرية العدوانية في المنطقة يتمّ التخطيط لها في إسرائيل، وهم لا يريدون إلقاء الضوء على مثل هذا التنسيق الخطير. وخبر آخر يمكن لنا تسليط الضوء عليه، حيث لم يرغب الأعداء بلفت الانتباه إليه، حين صرّح وزير الحرب الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، أن نسبة التفاهمات مع حكام السعودية والخليج بلغت 75 بالمئة، وأضاف «الحديث مع الحكام الخليجيين سهل لكن الأمور معقّدة مع الشعوب». هذا هو الموضوع الذي يجب علينا التركيز عليه، الشعب العربي في كل أقطاره يرفض التطبيع مع العدوّ المحتلّ، ولذا يجب إثارة وعيه وتوحيد طاقاته في وجه أكبر تآمر على حقوقه. إذاً في هذه الحرب الإعلامية من الحكمة وضع مرجعية واضحة وخطة طويلة الأمد ومراكمة النجاحات مهما بدت جزئية، مع اليقين أن التراكم الكمّي لا بُدَّ أن يحدث تحولاً نوعياً في لحظة ما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى