الغائب الحاضر في معادلات المنطقة
تسنى لي في عام 2002 أن أطلع أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأميركية على خطة إعلامية سنوية للكيان الصهيوني تتألف من نحو مئتي صفحة. كل الأبواب والفصول والفقرات كانت تؤدي إلى فكرتين أساسيتين لا ثالث لهما؛ الأولى هي بالنسبة للعراق التركيز على كلمتين في كل ما يكتب وينشر ويعلن ويقال في وسائل الإعلام وهما «صدام حسين» والثانية هي استخدام صفة «إرهاب» حيثما تمّ ذكر الفلسطينيين أو القيادة الفلسطينية أو العمل الفلسطيني. منذ ذلك التاريخ وأنا أركز ليس فقط على ما أقرؤه وأسمعه في الإعلام الغربي، وإنما على العنصر الغائب أيضاً لأن الغياب بالنسبة لخططهم هو، بمعنى ما، بأهمية الحضور. ومنذ أن بدأ الربيع الإسرائيلي أو الصهيو-أميركي في وطننا العربي وأنا أتابع وأستقرئ العنصر الغائب في المتابعات الغربية لأحداث المنطقة. فوجدت دون أدنى شك أن الغائب الأهم هو شعوب هذه المنطقة وحياتها وأمنها واستقرارها وهويتها وحياتها اليومية، التي تعني الأغلبية العظمى من السكان أكثر مما يعنيهم شكل الحكم ومبادئه الإيديولوجية وتوجهاته الغربية أو الشرقية. اللهم إلا إذا أرادت القوى الغربية أن تستخدم معاناة هذه الشعوب لتبرير تدخل عسكري، أو قصف، أو احتلال، فحينذاك يتم تسليط الضوء على معاناتهم فقط من أجل تبرير ما تمّ التخطيط له، حتى وإن كان ما تم التخطيط له سوف يزيد من حجم وعمق هذه المعاناة، ولكن بعد أن تكون الكاميرات قد غادرت الساحات وتمّ دفع هذا الملف في غياهب النسيان بالنسبة للذاكرة الإعلامية الغربية أو الدولية.
ذلك لأن حرية وكرامة واستقرار الشعوب لم تكن يوماً ما هدفاً للسياسات الغربية الاستعمارية بل كان استخدامها لتحقيق مكاسب ومصالح كولونيالية هو الهدف والمسار. ولكن ما نشهده اليوم في منطقة الشرق الأوسط، وبوجه التحديد في إيران والعراق وسورية، يُري أن هذه المعادلة في طريقها إلى التغيير، وأن الغائب منذ زمن بعيد عن أذهان المستعمرين الجدد سوف يفرض نفسه بقوة حاضراً في الميدان، وعاملاً أساسياً في صياغة المستقبل، وتحديد ملامحه وتوجهاته. فها هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبعد عقود من فرض عقوبات ظالمة عليها تنبجس من هذه المنطقة كرقم صعب حاضر حضور الواثق المتجذر غير آبهة بحملاتهم الدعائية والإعلامية المضلّلة، لأنها تدرك إدراك اليقين أن «الزبد يذهب جفاءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض». وها هو الشعب العراقي وبعد اثني عشر عاماً من تدمير أميركي ممنهج لجيشه ومدنه وقراه وقواه العسكرية والمدنية، يتجاوز كل المخططات الأميركية ويشكل قوة يُعتدُّ بها لدحر الإرهاب عن دياره وإنقاذ ما تبقى من حضارة بلاد الرافدين، ليبرهن بذلك أن التحالف الغربي ضد داعش ما هو إلا ظاهرة إعلامية لا تسمن ولاتغني من جوع، وإن أهل مكة أدرى بشعابها، وأحرص على واقعها ومستقبلها. وليبرهن أيضاً أن وحدة الشعب العراقي أعتى وأمتن من أن تمزقها تقولات صهيو-أميركية تبذل كل ما بوسعها لغرس بذور الطائفية والكراهية والفرقة بين أبناء الشعب الواحد. إن حضارة عمرها آلاف السنين لا يمكن أن تكون لقمة سائغة لمن هم طارئون على الحضارة الإنسانية ويظنون «أنهم يحسنون صنعاً». وها هو الجيش العربي السوري والشعب السوري يقاومان بكلّ بسالة واقتدار أدوات العدو الصهيوني في درعا والقنيطرة كما يحرران قرى ومدن شمال شرق سورية من براثن داعش التي تبرهن جرائمها بحق تراثنا وهويتنا وأرضنا أنها ذراع صهيو-أميركية تهدف إلى تدمير الحضارة العربية وتفتيت بلدانها.
إذاً الحاضر الذي لا يمكن تغييبه اليوم هو الشعب العربي والمواطن العربي وإحساسه بالخطر الداهم عليه. وقد برهن الميدان في سورية والعراق في الأسابيع الأخيرة أن إرادة الشعوب هي الأقوى من كل التحالفات الدولية ومن كل ما تمتلكه هذه التحالفات من إمكانات عسكرية وجوية وتقنية حديثة. كما برهن الميدان في سورية والعراق أن كل إمكانات البترودولار، وكل الأبحاث المزيفة والمنفصلة عن الواقع، التي تمولها دول الخليج في أميركا وأوروبا لن تتمكن من تغيير شكل عمود واحد من أعمدة تدمر ولا قطعة واحدة من آثار بابل أوإيبلا. ربما يمكن لنا اليوم أن نطمئن السيدة كونداليزا رايس أن الفوضى الخلاقة التي كلفت شعوبنا شهداء ودماء وتهجيراً ولجوءاً لن تنتج الحلم الذي حلمت به هي، بل ستحولها شعوب هذه المنطقة الضاربة في أعماق التاريخ إلى فرصة لإثبات حضورهم مجدداً، وأن حضورهم على هذه الأرض المقدسة هو العامل الأهم من كل محاولات الهيمنة الطارئة عليهم وعلى حضاراتهم المشرقة والمشرّفة، وأن أهل هذه الأرض هم الذين سيصنعون مستقبل بلدانها وليس المستعمر وأعوانه في المنطقة.