في 26 آذار عام 2000 اجتمع السيد الرئيس حافظ الأسد مع الرئيس بيل كلينتون في جنيف، وما أن بدأ الاجتماع إلى أن وضع الرئيس كلينتون خارطة على الطاولة، وعرض على الرئيس الأسد التخلّي عن ضفاف طبريا مقابل مساحة مضاعفة تقدّم لسورية في مكان آخر. ظهرت علامات الغضب على الرئيس الأسد، وأمر بإبعاد الخريطة فوراً وأنهى الاجتماع بعد محاولات ودّية من الرئيس كلينتون لاستئناف الاجتماع دون خريطة، فقال الرئيس الأسد: “تريدون منّي أن أتخلّى عن حقّ سورية في طبريا، وأنا أعلم أنّها سوريّة، وكنت أسبح هناك؟!” قالت له مادلين أولبرايت بغاية الهدوء والأدب: “اسمح لي سيادة الرئيس أن أقول لك شيئاً من باب محبتنا واحترامنا الكبير لك. قد نكون نحن آخر إدارة تقدّم لك 85% من الجولان، وأخشى إن لم تأخذ بهذه الفرصة أنها لن تتكرّر لك.” أجاب الرئيس الأسد: “أنا لا أقول لك أنني سوف أتمكن من تحرير الجولان خلال حياتي، ولكن بالتأكيد لن أوقّع صكّاً بالتخلّي عنه، وأنا واثق أنّ أجيال السوريين من بعدي لن تتخلّى عنه أبداً، وسوف تحرّره من دنس الاحتلال.”
حضرني هذا الحدث بقوّة حين رأيت ورقة كريمة خطّها الشهيد البطل عدي التميمي، حين قال فيها: “إنني أعلم أنني لن أحرّر فلسطين في استشهادي، ولكنّني أقدم على الشهادة كي يبقى الشباب الفلسطيني حاملاً لبنادقه.” وهذا أيضاً ما قاله الشهيد البطل إبراهيم النابلسي، وما يقوله الشهداء والأسرى الأبطال، والقائمة تطول. وهذا أيضاً ما قاله وفعله الشهيد يوسف العظمة حين ودّع ابنته ليلى، وخرج بأعداد قليلة ليواجه جيش غورو الاستعماري الفرنسي مدركاً أنّه في طريقه إلى الاستشهاد، ولكن كي لا يُقال: “أنّ جيش غورو قد دخل دمشق دون مقاومة.” أي أن الشهادة في سبيل شرف الأمّة وحقوقها وكرامتها نابعة من اليقين بأن أمتنا لا تموت، وسيأتي من يكمل الدرب ويحقّق الانتصار ويردّ الحقوق.
هذا الإيمان بالأجيال القادمة، وهذا الإصرار على تحرير الإرادة، وتقديم القدوة والمثل والأنموذج حتى إذا كان الثمن دفع الحياة بسخاء في سبيل القضية، هو الذي كان السبب الأهمّ في تحرير معظم بلداننا العربية من المغرب إلى اليمن، وأخص بالذكر الجزائر، بلد المليون ونصف المليون شهيد، الذي قارع شعبها الاحتلال الفرنسيّ الاستيطاني الذي لا يضاهي وحشيته وعنصريته ودمويته سوى الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. قارع الجزائريون هذا الاحتلال الوحشي مئة وثلاثين عاماً، وحقّقوا في النهاية التحرير والاستقلال. مع العمليات البطولية للشهيد عدي التميمي في مخيم شعفاط وأدوميم، نستذكر يوم السابع عشر من تشرين الأول 1961، أحد أسوأ الأحداث في تاريخ الثورة الجزائرية حين ارتكبت فرنسا واحدة من أبشع مجازرها ضدّ متظاهرين جزائريين خرجوا في مسيرات سلمية احتجاجاً على حظر التجوال الذي فُرض على الجزائريين في باريس، وهتفوا لاستقلال الجزائر، وحيّوا جبهة التحرير، فهاجمت قوّات الشرطة الفرنسية المتظاهرين السلميين، وقتلت العشرات منهم عمداً، وألقت بالعشرات منهم في نهر السين حتى طفت جثثهم على سطحه، كما اعتقلت أكثر من 12 ألف جزائري في ذلك اليوم. وتاريخ الجزائر واليمن ومصر والسودان والعراق وفلسطين وليبيا وسورية، وتاريخ بلداننا العربية حافل بالجرائم التي ارتكبها المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون وليس آخرها غزو العراق ونهب ثرواته وقتل الملايين بالقصف والتفجير والإرهاب والتعذيب في أبو غريب. وحديثاً الأمريكيون بحقّ شعوبنا العربية، وفي كافة أرجاء هذا الوطن العزيز إمعاناً من المستعمرين الغربيين في كسر إرادة شعب عربيّ عريق مؤمن بأرضه وتاريخه ومستقبل أجياله، ولكن التاريخ يثبت لهم مرةً تلوَ أخرى أنّ شعباً عربياً اصيلاً يؤمن بالتضحية والفداء في سبيل الأرض والمستقبل، ويبذل الروح كي يبقى المثل وكي لا تنطفئ شعلة المقاومة والإيمان بالتحرير والعودة هو شعب لا يمكن أن يُقهر.
إنّ البطولات التي يسطّرها الشعب الفلسطيني اليوم في مقاومة آخر احتلال استيطاني غربي عنصريّ بغيض على وجه المعمورة جديرة بأن تمثّل معيناً لا ينضب للشعوب التوّاقة إلى التحرّر، والمتمسّكة بالكرامة الوطنية، والمعبّرة عن الانتماء الذي لا يُهادن ولا يُساوم. علَّ أجمل ما يميّز الشعب العربي الفلسطيني هو هذه البوصلة العفوية النابعة من عمق الانتماء القومي للأمة العربية العريقة والتي تتحرّك في المفاصل الحسّاسة بوعي شعبيّ جمعيّ قلّ نظيره، متجاوزة أيّة تقسيمات أو خلافات قد تكون قائمة على المستوى السياسي، ومتحرّكة بوعي ومسؤولية نحو الهدف الأسمى وهو الحرية والخلاص من الحكم الاستعماري الصهيوني. فهل هناك احتلال في التاريخ أعاد تهديم قرية أو قرى مئة مرة، بينما يعود أهل هذه القرى لبنائها بإصرار وشغف؟! وهل هناك شعب ينطلق يافعوه ليؤرّخوا القرى التي تمّ تهجير أبنائها، وغيرها من القرى والبلدات ليرسلوا الصور إلى الفلسطينيين في الشتات، من الذين لا يتمكنون من زيارة قراهم ووطنهم؟
إنّ التقصير في وطننا العربي إجمالاً لا يكمن في صناعة التاريخ، وإنما في كتابته وتدريسه بالقدر والشكل اللذين يستحق، وهذا هو واجب القطاعات الأخرى المقاومة، وقد حان الوقت أن تتصدّر هذه القطاعات المشهد، وأن تعتبر مسؤوليتها تسجيل تاريخ المعارك التحريرية، كما يجب أن يُسجَّل بدقة وصدق منذ بداية الاستعمار العثمانيّ وإلى الفرنسيّ والإنكليزيّ والصهيوني والإيطالي والأمريكي في يومنا هذا وكلّ ما تضمّنه من سير وأساطير وبطولات عربية، ولو شكّل هذا التاريخ جزءاً من المكتبات العالمية ربما لارتدع الأعداء قبل أن يُقدموا على محاربة أمّة بهذه الروح والإرادة والشكيمة.
والتقصير الثاني هو في تأريخ جرائم الاحتلالات التي مرّت، وما زالت، على أرضنا الطاهرة وتدوين بشاعتها ومرتكبيها من الحكام وقادة الجيوش والمخابرات والسياسيين وتخصيص مراكز أبحاث ليس فقط لما تمّ ارتكابه على أرضنا وإنما أيضاً لما تمّ ارتكابه بحقّ الشعوب الأصلية التي تشبهنا جداً في الأمريكيتين وأستراليا وكندا. وفائدة هذا التدوين هو أن يرسّخ في أذهان الناشئة حقيقة النظام الغربي العنصريّ الذي يدّعي كذباً وزوراً الحرص على الحرّية والكرامة وحقوق الإنسان، ويُظهر بشاعته منذ عصر الإبادة العنصرية والعبودية في الولايات المتحدة، حيث تمت إبادة السكان الأصليين للقارة الأمريكية الشمالية بأبشع الطرق، ودفن ثقافتهم التاريخية الفنّية، بحيث لم يصل لنا منها إلّا النّزر اليسير. علّ مثل هذه الأبحاث، لو تمّت فإنها ستكون قادرة على أن تقنع البعض أن يتوقفوا عن الحديث عن الغرب “الحضاري”، وتساهم في إزالة الغشاوة عن عيونهم، والتوقّف عن المراهنة على من أبادوا الملايين وشعوباً بأكملها من أجل الذهب والنفط والهيمنة، وارتكبوا أبشع المجازر بحقّ الأجداد. إنّ من يدعو هؤلاء الغربيين لإدانة الارتكابات الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطينيّ واهم لأنهم وكأنّ المطلوب هو أن يدينوا أنفسهم. علّ مثل هذا التفكير والعمل الملازم له لو حدث لأوضح كثيراً من الثوابت في أذهان الناشئة، ولَوَفّر على الأجيال القادمة كثيراً من التشويش الذي تتسبّب به الآلة الإعلامية الغربية الاستعمارية الموجّهة والتي تهدف أولاً وأخيراً إلى تثبيت صورة التفوق الغربيّ على باقي البشريّة كي تُبقي على هيمنتها على بلداننا، ونهبها لثرواتنا، ودعمها لأدواتها في منطقتنا والعالم.