داعش وسايكس بيكو
في مثل هذه الأيام منذ مئة عام كان سايكس وبيكو يناقشان خطوطاً يرسمانها على خرائط لتحدّد بعد ذلك مصائر شعب لم تفصل بينه حدود، وعلى مدى التاريخ تشاطر اللغة والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد، ولتخلق أقطاراً غير قابلة للحياة بحيث تضطرّ أن تكون متكئة في كلّ تفصيل من تفاصيل حياتها على دول راسمي هذه الخطوط وحتى على غيرها عبر البحار على ألا تنشأ بين هذه الأقطار أي علاقات طبيعية تعالج مشاكلها وتعزّز من عناصر قوتها. وها نحن أبناء هذا الجيل، وقبل بداية الأحداث الأخيرة في منطقتنا، وجدنا الكثيرين في هذه الأقطار يدافعون عن قدسية هذه الخطوط الاستعمارية والحدود المصطنعة بين أبناء الشعب الواحد، ويتفاخرون باستقلالهم المطلق عن إخوانهم وحلفائهم الطبيعيين، هذا إذا لم يناصبوهم العداء لإرضاء الأسياد ونيل شهادة حسن سلوك منهم. وقد برهنت هذه الحدود أنها العدوّ الأساس لقوة العرب جميعاً وعزّتهم ومكانتهم وقدرتهم على إثبات مكانة لهم تحت الشمس.
وها نحن اليوم وبعد مئة عام من هذا المخطّط نواجه مخططاً آخر يهدف إلى إرساء أسس واقع جديد للمئة عام القادمة، انطلقت تباشيره بمسمّيات مضلّلة تروّج للديمقراطية والحريّة تحت لافتة «ربيع عربي» برهن بعد سنوات قليلة أنه حفلة تدمير للهوية العربية، وأنّ الهدف النهائي منه هو تقسيم المقسّم وتجزئة المجزَّأ، وتدمير الآثار والتراث وتمزيق ما تبقّى من لُحمة عربية سواء داخل القطر الواحد أو عبر الأقطار، ودفن أجمل ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من عادات وتقاليد وطريقة حياة وبعثرة أفضل كفاءاتنا في أصقاع الأرض بحيث يصعب علينا، حتى مع أفضل النيات وأعتى الجهود، أن نخطوَ خطواتٍ حقيقيةً إلى الأمام. ومنذ عام 2011، ومع انطلاقة هذه الأحداث في تونس ومصر وليبيا وسورية، استغلّنا الإعلام العالمي، الذي هو من صنعِ من يستهدفنا، بضرورة تغيير الحكام، وإرساء أسس الديمقراطية الغربية. فنجحوا في ليبيا وتعثّروا في سورية، وما زالت نتائج الأحداث هذه غامضة في كلّ البلدان العربية. ولكنّ التطوّر النوعي لاغتيال الزمن وحرق المراحل والتوصل إلى نتائج سريعة تحقق الهدف الأساسي من كلّ هذه الأحداث أتى من خلال إسقاط داعش في العراق وسورية، واليوم نشهد المحاولة الجادّة لنقلها إلى ليبيا وربما مصر من خلال ليبيا، فما الذي حدث على مدى الأشهر الأخيرة، وما النتائج التي حققها حضور داعش خدمة للمخطّط الأساسي الذي انطلقوا منه؟
لقد ظهرت داعش في العراق كقوة لا تُقهر وكأنها سقطت من السماء وأخرجت من بواطن الأرض في غفلة ممن يعيشون على هذه الأرض، فحسمت وبسرعة قياسية وضع مدينة كركوك المتنازع عليها منذ سنوات بين كردستان والعراق، وأوضحت بشكل لا لَبْس فيه انقسام إقليم كردستان عن الجسد العراقي، وحتى حين احتلت داعش جبل سنجار استطاعت قوات التحالف والقوات العراقية وغيرها أن تحرّر جبل سنجار والأراضي التي تصله بمدينة الرّقة السورية تمهيداً لخلق كيان كردي يمتدّ على أرض سورية والعراق. وفي سورية استخدمت داعش أساليب إعلامية متطوّرة جداً ومستقدمة إلى العالم العربي، الذي لا يملك نظيراً لها، لتوهم الناس أنها القوة التي لا تُقهر. ولكن مقابل ذلك صمد السوريون في عين العرب كما صمدوا في نبّل والزهراء والفوعة، ولكن أحداً في الإعلام العربي لم يركّز على أي بقعة في سورية إلا على عين العرب التي روجوا اسمها اللاعربي «كوباني»، وفجأة أيضاً تمكّن السوريون من تحرير عين العرب وعشرات القرى المجاورة لها مع فرق جوهري وهو أن هذه المنطقة رفعت الأعلام الكردية بدلاً من علم الجمهورية العربية السورية في خطوة على طريق خلق كيانات ضمن البلد الواحد.
ومنذ أسبوع اكتشفت السفيرة الأميركية في ليبيا بصمات داعش في حادث قتل مروّع في إحدى محطات النفط وبعدها تناقلت الأخبار وصول داعش إلى منابع نفط ليبيا، وأيضاً تمّ التهويل بأنها قوة لا تُقهر هناك، ولن يتمكّن أحد من ردعها من احتلال منابع النفط. تلا ذلك إظهار واحد وعشرين قبطياً بلباس برتقالي يعتقد أن داعش قد قتلتهم في محاولة أيضاً لاستجرار مصر للغرق في براثن داعش الليبية، وبذلك يكون تمّ ضرب عصفورين «ليبيا ومصر» بحجر واحد. وبين هنا وهناك خطوات مدروسة لتدمير التعليم والهوية والعادات والأخلاق في كلّ هذه البلدان ولهذا مساحة خاصة في الأسبوع القادم.