سورية والعراق
كانت زيارة وزير خارجية العراق والوفد المرافق له إلى الجمهورية العربيّة السوريّة والروح الإيجابيّة التي أظهرتها هذه الزيارة من كلا البلدين وافتتاح معبر نصيب في اليوم ذاته ومعبر القنيطرة، كلّ هذا كان علامة فارقة سواء في تاريخ الحرب على سورية أو في استشراف المستقبل الذي يمكن التطلع إليه والعمل على تحقيقه رغم كلّ ما حلّ بسوريّة والعراق من تخريب وتدمير مقصودين وممنهجين لبلدين شكلا على مدى التاريخ منطقة للتقاطع الحضاري وإشعاعاً حضارياً للعالم برمته وخاصة للأمّة العربيّة ومنطقة غرب آسيا. فرغم كلّ الأضرار التي لحقت بالشعب العراقي بعد الاحتلال الأميركي للعراق ورغم كلّ التدمير الذي أصاب سورية في هذه الحرب الإرهابية الكونية عليها يبقى للعراق وسورية وقع خاص في وجدان كلّ عربيّ ويبقى للقاء السوري العراقي أهمية خاصة في احتمال إحياء العمل العربيّ الحقيقي المبني أصلاً على التضامن القومي المستند إلى وحدة التاريخ والجغرافيا واللغة والمصالح المشتركة والمصير الواحد حكماً. إن استعادة العراق لعافيته شيئاً فشيئاً رغم كلّ أسس التخريب التي أرساها المحتلّون وصمود سورية وتمسكها بعروبتها وقراراها المستقل يجعلان من إمكانية العمل المشترك بين العراق وسورية، إمكانية حقيقية تحتاج فقط إلى المبادرات الواعية والمدروسة وترتكز على مشروعية قضايانا والتمسك بهذه المشروعية مهما كلّف ذلك من أثمان.
والعراق وسورية مؤهلان للعب هذا الدور على الساحتين العربيّة والإقليمية نتيجة ثقلهما الحضاري والمعرفي والثقافي والروحي أولاً ونتيجة مساهمتهما من خلال صمودهما والتمسك بمبادئهما في تغيير المناخ الإقليمي والدولي لمصلحة أصحاب الحقّ وضدّ كلّ الأعداء والخصوم الذين استهدفوا هذين البلدين بالذات محاولين كسر شوكة التاريخ وتدمير أمل الأجيال بمستقبل أفضل. لقد كانت العلاقة تاريخياً بين بلاد الشام وحضارة ما بين النهرين هي الأهمّ اقتصادياً ومعرفيّاّ وحضاريّاً. ولكن منذ سريان اتفاقات سايكس بيكو على المنطقة وزراعة الكيان الصهيوني في قلب هذه المنطقة أصبح ممنوعاً على هاتين الحضارتين التلاقي والتعاون والتنسيق. وغدا واضحاً اليوم أن كلّ السياسات التي منعت هذا التلاقي، كائناً من كان منفذوها، كانت تصبّ في خدمة مصلحة أعداء البلدين وتعمل على إضعاف البلدين والحدّ من مقدراتهما. فإذا ما آمنّا أن مثل هذا المنع بتلاقي القوى العربيّة يخدم أولاً وأخيراً مصلحة الكيان الصهيوني الذي يستخدم أبواقاً شتى لتمرير مصالحه نوقن أن فتح الحدود والمعابر والتبادل الاقتصادي والثقافي والمعرفي والتنسيق السياسي يخدم دون شك مصلحة الشعبين في البلدين ويقدّم أنموذجاً ونقطة جذب لباقي الدول العربيّة التي يمكن أن تلتحق في هذا الإطار التنسيقي حينما تسمح ظروفها بذلك. وهذا دون شك يوفر أسلوباً جديداً للتعامل العربيّ المريح الذي يخلق من الأواصر المشتركة عالماً رحباً للعرب إقليمياً ويعزّز من مكانتهم الدولية دون أن يحمّلهم أي أعباء.
وقد يكون هذا التعاون والتنسيق اليوم متاحاً أكثر من أي وقت مضى لأنه يأتي في توقيت نشهد فيه تفكّك النظم الإقليمية والدولية التي خلفتها لنا الحرب العالمية الثانية من جهة والسباق من أجل ولادة نظم جديدة تغيّر مراكز القوى لمصلحة أطراف مختلفة وقد تكون جديدة بوزنها وهويتها وتطلعاتها المستقبلية من جهة أخرى. وهنا علينا الانطلاق من هذه الفكرة المركزية لفهم التصريحات المبطنة للخصوم والأعداء والتي تحاول منع ولادة هذا العالم الجديد رغم أنها متأكدة من بداية انهيار العالم القديم. فحين يطلق رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو التصريح تلو الآخر ضد الوجود الإيراني في سورية فهو يعلم علم اليقين أنه يقصد ولادة محور وتحالف جديد لن يكون للاحتلال ولا للإرهاب مكان بين ظهرانيه. وحين تتخذ الدول المانحة الغربية والإقليمية موقفاً يمنع تمويل حزب اللـه داخل وخارج لبنان ويسمح للولايات المتحدة بملاحقة حزب اللـه واستهدافه فإنهم بذلك يحاولون تقويض طرف من أطراف المحور الجديد والذي أرعبتهم ولادته خلال الحرب على سورية والتي كان الهدف منها إضعاف وتقسيم سورية وإذ بسورية تصبح طرفاً في تحالف فرض معادلته على الساحتين الإقليمية والدولية. وفي الإستراتيجية الأميركية الجديدة لإدارة الحرب على سورية تتحدث واشنطن عن «فرض عقوبات على الشركات الروسية والإيرانية المشاركة في إعادة إعمار المناطق السورية» حيث أعرب الدبلوماسي الأميركي جيمس جيفري أن هذه السياسات تمثل خطراً على المنطقة ويقصد طبعاً على الكيان الصهيوني والوجود الأميركي في المنطقة. ومن طرف آخر يمثل مايسترو الحرب على سورية رجب طيب أردوغان طرفاً آخر طامعاً في سورية والعراق دون أن يخفي ذلك أبداً حين يقول:
«إنّ تركيا قادرة على لعب دور في المسائل الإقليمية وخصوصاً في سورية والعراق، وتنفيذ كل التدابير اللازمة لضمان وجودها» كلّ هؤلاء الخصوم إذاً وعلى رأسهم الكيان الصهيوني يسعون لضمان وجودهم على أرض بلاد الشام وحضارة ما بين النهرين بعد أن فشلت حروبهم وإرهابهم وكلّ أساليبهم الإجرامية في كسر إرادة شعبيّ هذين البلدين، لا بل بعد أن نجم عن إرادة وصمود الشعبين وحربهما ضد الإرهاب ولادة محور جديد من إيران إلى لبنان مؤمن بحقّه في أرضه واستقلال قراره وسيادته مهما كلّفه ذلك من ثمن. إذاً التفكير اليوم لابدّ أن يكون بحجم الإنجاز وبحجم آمال كلّ نبض عربيّ على مستوى الأمة وكلّ مؤمن بالحقّ بعيداً عن الهيمنة والاستعمار على مستوى العالم. لقد تحقّق، أو يكاد، الانتصار العسكريّ في سورية والعراق على الإرهاب والعدوان والاحتلال والأمل اليوم هو أن تتمكّن سورية والعراق من استثمار هذا الانتصار بتشكيل أنموذج للعلاقة بين شعبين أخوين وبلدين شقيقين وجارين تؤتي أكلها خيراً ورحابة ويسراً للبلدين في كلّ المجالات وتشكّل نواة لمن يريد الالتحاق بركب الحقّ والخير واستقلال الرأي والاعتزاز بالكرامة الوطنية.