مقالات

صدق حافظ الأسد

في كشف لملف سري للسفير الروسي إلى القاهرة في أوائل السبعينيات والذي أصبح بعد ذلك نائب وزير خارجية الاتحاد السوفييتي ومن ثم وزير خارجية الاتحاد الروسي فلاديمير فينوغرادوف، نطلع على أول ركن من أركان ضرب هذه الأمة في الصميم من خلال اتفاق إسرائيلي أميركي مع السادات لشن حرب تعيد الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط وتعزّز قوة إسرائيل وتقضي قضاء مبرما على الجيش السوري وفق المخطط في هذا الملف الذي نشرت كاونتر بونش مقتطفات منه على أن ينشر كاملا في «روسيا ويكلي» الأسبوع القادم. في هذا الملف وثّق فينوغرادوف خيانة السادات للأسد ولمصر والعرب في حرب ١٩٧٣ وأن هذه الحرب قد تم التخطيط لها من غولدامائير والسادات بوساطة ورعاية هنري كسينجر. كان الهدف بالنسبة للسادات هو أن يصبح بطلا قوميا وخاصة أنه كان حسب وصف فينوغرادوف «الأقل كفاءة وجاذبية بين رفاق جمال عبد الناصر». أما الولايات المتحدة فكانت تهدف للعودة إلى المنطقة كصانعة سلام بين العرب وإسرائيل بعد أن تضع مصر تحت وصاية أميركية وتخرج السوفييت من المنطقة وتخرج سورية من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن تدمر الجيش السوري تدميرا كاملا وفق خطة الحرب المتفق عليها. وفق هذه الخطة يعبر الجيش المصري قناة السويس ولكنه يتوقف عن قتال القوات الإسرائيلية تماما بعد ذلك. ولهذا حين حققت القوات الإسرائيلية خرق الدفرسوار اتصل الأسد بالسادات عدة مرات كما طلب السفير فينوغرادوف من السادات السماح لقواته باستكمال المعركة لكن السادات كان يقدّم أعذارا واهية لمنع قواته من الاستمرار بالمعركة بعد أن علم الجميع أن الجيش المصري توقف عن محاولة صد الهجوم أو دحر الإسرائيليين بناء على تعليمات من السادات نفسه. ويقول فينوغرادوف كانت كل الذرائع التي يقدمها السادات لعدم معالجة هذا الخرق واهية وغير منطقية. في الوقت ذاته زجّت إسرائيل بكل قواتها على الجبهة السورية وقد قال لي الرئيس حافظ الأسد أنه حاول الاتصال بالسادات أكثر من مرة ليطلب منه تحريك جبهته لتخفيف الضغط عن الجبهة السورية إلا أن السادات لم يعد يجيب عن اتصالاته فشعر الأسد أن هناك شيئاً مدبرا وربما نوعا من الغدر أو الخيانة للخطة والقيادة المشتركة للحرب بين سورية ومصر. لقد كانت هذه النقطة من أكثر النقاط إيلاما التي رافقت الرئيس حافظ الأسد حتى آخر أيامه. فقد قال لي بعد عودتنا من جنيف وإعلان إخفاق عملية السلام وقبل وقت قصير من وفاته: «لو كنّا نحن العرب صادقين مع بَعضنَا وقادرين على التنسيق الفعلي والعمل المشترك لما تمكنت إسرائيل ولا حتى الولايات المتحدة الاستهانة بِنَا ولكننا فشلنا حيث نجحت أمم أخرى لا تملك القواسم المشتركة التي نمتلكها نحن العرب بين بلداننا وشعوبنا. لقد حاولت كثيراً ونجحت في كثير مما أردت فعله إلا على الصعيد العربي لم أتمكن من تحقيق شيء فعلي يغير الواقع العربي».

لقد قام السادات بعد الحرب بإبعاد أو سجن كل رفاق جمال عبد الناصر كما أخرج الاتحاد السوفييتي من مصر وأعاد الولايات المتحدة إلى المنطقة كوسيط بين العرب وإسرائيل في مؤتمر جنيف وبعد ذلك مؤتمر كامب دافيد الذي أخرج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن وجه ضربة قوية للجيش السوري، الأمور التي نتج عنها ظهور دول الخليج كشريك أساسي للولايات المتحدة، شريك تبنىّ الدولار عملة أساسية لبيع النفط وشكّل بذلك عملية إنقاذ للخزينة الأميركية التي وصل احتياطيها من الذهب إلى أدنى مستوى له في عام ١٩٧١. ومع ذلك، أو ربما الأصح، بسبب كل ذلك، قتل السادات بعد زيارته للقدس لأن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تريدان لكل هذه الأسرار أن تنكشف ولكل هذه الخطط أن تكون رهينة قابلة للفضح من قبله في يوم ما أو لسبب ما. ومن يتذكر التاريخ يكتشف أنه قلما نجا عميل إسرائيلي أو أميركي من المصير ذاته.

البارحة وفي لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون قال نتنياهو، رئيس وزراء العدو «إن عدداً من الدول العربية عبرت لنا عن رغبتها بإقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل» وإن عدداً من الحكام العرب أخبرونا في الغرف المغلقة أنهم لا يمانعون قيام دولة يهودية في «إسرائيل». والسؤال الملح هو: ما الذي يدفع العرب للتواطؤ مع أعداء العرب والعروبة والذين هم بالنتيجة أعداؤهم الحقيقيون وأعداء أهلهم وعشيرتهم ووطنهم سواء أفهموا ذلك أم لم يفهموه؟ Sent from my iPad التاريخ يثبت من دون أدنى شك أن كل من زرع الخيانة والغدر لأبناء قومه حصد الخِزْي والعار وسوء العاقبة في الدنيا قبل الآخرة وأورث بلداننا كلها جميعاً إرثا صعبا من الضعف والتشتت والهوان مازالت جماهيرنا الغفيرة تحصد نتائجه الشائنة إلى يومنا هذا. هل نجد نحن بين صفوف أعدائنا من يتواطأ على أبناء جلدته ويبيعها بثمن بخس لخدمة أبنائنا نحن؟ هل نجد بينهم من يخون قادته وشركاءه لخدمة مخططاتنا؟ لماذا يهون على بعض العرب خيانة إخوانهم وأصدقائهم الخلص لخدمة أعدائهم؟ ما السرّ في هذا الجبن والضعف والهوان والذل للأعداء والتكبر على الأشقاء بعكس ما أمرنا اللـه عز وجل أن نكون «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» ورغم تحذيره عزّ وجل في كتابه المجيد: «إن اللـه لا يحب كل خَوَّان أثيم».

أما حان الوقت كي نعيد كتابة تاريخنا بوضوح وشفافية وأن نحمّل المسؤولية من يجب أن يتحملها وأن نكتب اسم من باع وطنه وأهله بالحبر الذي يستحق وعلى الصفحة التي يستحق في حين نرفع أسماء القادة الحقيقيين والوطنيين الصادقين المخلصين إلى المرتبة التي تليق بهم كي يكونوا مثلا وقدوة للأجيال الناشئة؟. قد يكون المنافقون والعملاء والخونة أهم بلاء ابتليت به هذه الأمة ولكنّ مداهنتهم والسكوت عنهم لن يزيدا النار إلا اضطراما. لا بد من خلع رداء الجبن والسكوت عن الحق ولا بد من التحلي بالمسؤولية عن كل صغيرة وكبيرة والصدق مع الأجيال كي نؤسس لثقافة تنبذ الخيانة والخائنين وتبني الأوطان بسواعد الوطنيين الصادقين علّنا نحقق حلم حافظ الأسد بتنسيق وعمل عربي فعّال هو وحده يمكن أن يضع حداً للحروب الطاحنة علينا ويعيد للعرب عزتهم وكرامتهم. هذه هي البداية الوحيدة المجدية والمجزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى