عام مضى فهل انقضى؟
هناك فرق بين أن يمضي عام زمنياً وأن نودّع أيامه وأسابيعه وشهوره، وبين أن تقضي أحداثه، فمنها ما يخلد في الذاكرة ومنها ما تطويه صفحات النسيان سريعاً وكأنّه لم يحدث يوماً.
وأحداث البلدان والأقطار تماماً كتاريخ الأشخاص منها ما يترسخ في ذاكرة الأجيال لعقود قادمة ويصبح من معالم صناعة الأوطان، ومنها ما تذروه الرياح ولا تترك له أثراً على الأرض أو في الكتب أو في الذاكرة. ومع أنّنا نودع اليوم عاماً ونستقبل عاماً بمشاعر متداخلة من الحزن والأمل، فإن الزمن هو الكفيل بأن نلقي نظرة ثاقبة على أحداث عبرت وأن نفهم حقيقة ما جرى ونتعلم الدروس ونستخلص العبر منها. هناك مثل يقول: إن الزمن هو الشافي الحقيقي، ونضيف إليه: إن الزمن هو الحَكَم الحقيقي على الأحداث، لأن زوبعة الأحداث لا تتضح أبداً في زمن وقوعها ولا يمكن إدراك الغث من الثمين إلا بعد أن يختبر الزمن مادة الحدث وهدفه ومبتغاه. علّ زوبعة الحرب الإرهابية التي شنتها دول تحالف الشر والعدوان بهدف تدمير العرب لمصلحة بقاء إسرائيل وهيمنتها على مقدراتهم ومولتها الدول النفطية «الشقيقة»، هذه الزوبعة التي أصابت سورية كما أصابت ليبيا واليمن وقبلها العراق في الأعوام الأخيرة، تعتبر مختبراً للزبد من القول والعمل الذي يذهب جفاء بالمقارنة مع الذي يمكث في الأرض، ويبرهن على أنه الحقّ المستدام على الرغم من كلّ محاولات تشويهه أو النيل منه، على الرغم من تسخير كل المقدرات ووسائل الإعلام لقلب الحقائق رأساً على عقب.
لقد عاشت سورية خلال السنوات الماضية تاريخاً يجب تدريسه للأجيال، لأنه يعتبر أنموذجاً لقصة شعب صامد وجيش باسل تكاتفت عليهما قوى البغي والعدوان. ولكنّ ما يعنينا هنا، وفي هذا السياق، الروايات التي عمد البعض إلى ترويجها عن مسار الأحداث والفتاوى المسبقة الصنع التي أصدرها مشايخ الفتنة الوهابية، والتقارير التي أصدرتها يومياً مراكز مخابراتية يسمونها زوراً بمنظمات «حقوق الإنسان» أو «استطلاعات الرأي» أو «شهود العيان» أو غيرها، وحتى تصريحات مسؤولين في الغرب والشرق كنّا إلى وقت قريب نعتقد أنهم يحترمون كلمتهم ولا ينطقون بخفة الجاهل أو الحاقد أو الكاذب عن سابق إصرار الذي اعتاد أن يستهين بتاريخ الشعوب وذكائها الفطري والحضاري الذي راكمته خلال قرون من الزمن.
بالفعل علّ أهم ما ميّز 2018 الراحل عنّا اليوم هو أنه كان عاماً كاشفاً للأشخاص والمقدرات والمواهب، أو قلتها، والقادة، أو الافتقار للقيادة، إذ لا يكاد يصدّق أبناء الجيل الذي عاصر قادة عظاماً وأصحاب قضايا ومواقف أنهم يرون اليوم تدهور المستوى القيادي في العالم بأسره وافتقار هذا العالم إلى قيادات حقيقية يتطلع إليها الآخرون كأنموذج في الكِبَر والموقف والمسؤولية التاريخية والمصداقية. لذلك فإن الشعور السائد هو أن الإنسان العادي والبعيد عن موقع المسؤولية قد يكون اليوم أكثر تمسكاً بالمبادئ والمثل السامية من أصحاب المواقع الرسمية. ولم لا وقد رسمت الدولة الأولى في العالم مسار الاهتمام أنه يتركز على المال أولاً وثانياً وثالثاً وأنّ لا قيمة ولا موقفاً ولا صوتاً يعلو فوق صوت الدولار، وسواء شعر الآخرون بتأثير هذا المسار عليهم أم لم يشعروا فهو من دون شك يؤثر في رجال السياسة قبل رجال المال ويجعل من هذه الصفة أمراً متداولاً ومع الزمن يصبح أمراً مقبولاً لدى البعض أو حتى طبيعياً. ولكنّ هذا ما سوف يتعرض لنار الزمن التي تكشف المعدن الأصيل من المعدن الرديء وهذا هو الذي ينقضي بانقضاء عام أو أعوام، ومن ثمّ يتم تصحيح الخلل وتستعيد الإنسانية رشدها ومواقفها السليمة ويتضح أثر هذا وذاك في الميزان ويكتسب كلّ فعل وقول قيمته التاريخية الحقيقية، فإما أن ينقضي وكأنّ شيئاً لم يكن وإمّا أن يشكّل إضافة للقيم التي تعتزّ بها الإنسانية وتحافظ عليها وتعمل على تراكمها والاقتداء بها. أي إن آنية النجاح وآنية البهجة لا تُفرح إلا ضعاف العقول، أمّا الراسخون في العلم والمتجذرون في الأرض فينتظرون حكماً أهم ألا وهو حكم التاريخ وحكم الحق على ما يفعلون ويسطّرون. وفي آخر ما حرّر حول سورية وبعد إعلان الانسحاب الأميركي من شرق الفرات وشيوع أخبار عن قرب دخول الجيش السوري إلى بلدة منبج السورية، الأمر الذي استدعى تصريحاً من عضو كونغرس أميركي يقول فيه: إن دخول الجيش السوري إلى منبج أمر محزن وأنّه يعتبر كارثة بالنسبة لتركيا وإسرائيل! وهنا ينطبق على عضو الكونغرس هذا القول السائد «إن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم». السؤال هو: هل يعلم عضو الكونغرس أن منبج مدينة سورية وأنّه من الطبيعي جداً أن يدخلها الجيش السوري كما سوف يحرّر كلّ بقعة من التراب السوري وكلّ مدينة وقرية سورية محتلّة من الإرهابيين والمرتزقة وداعميهم عاجلاً أو آجلاً؟ وهل يعلم أن الكيان الصهيوني كيان محتل للأرض العربيّة؟ وكذلك فإن القوات التركية على الأرض السورية هي قوات احتلال أجنبية، وأنّ مصيرها هو أن تواجه مقاومة سورية وأن تغادر البلاد طال الوقت أم قصر؟ لماذا يحشر مسؤولون أميركيون يجلسون في مكاتبهم المريحة عبر الأطلسي أنفسهم في قضايا لا يعرفون عنها شيئاً، وفي أراضٍ لا تعني لهم شيئاً، وفي علاقات إشكالية لا يعلمون شيئاً عن تاريخها أو تداخلاتها أو مجرياتها أو تحولاتها المستقبلية؟ هذا بعض من الزبد الذي نواجهه اليوم والذي يذهب جفاء تماماً كما يذهب زبد الطرف الفرنسي الذي أراد أن يتصدّى لمسألة انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات، آملاً أن يطرح نفسه وقواته بديلاً من هذه القوات، غير مدرك أن الواقع أعقد من أن يسمح له بعودة أحلامه الاستعمارية وآماله في ترجمة أقواله إلى أفعال.
لقد تجاوز الزمن ورثة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ هذا النظام بالتفكك والانهيار، لكنّ بعض القائمين عليه ما زالوا يعتقدون أنهم يمسكون بعوامل القوّة وأنّهم مازالوا المنتصرين والمستعمرين الذين يَحسبُ العالم لهم حساباً، على حين تحرّك العالم وتحرّر من كلّ هذه المقولات والأوهام وتطورت الشعوب وحثّت الخطى شرقاً، حيث يتوقع أن تكون الصين والهند وروسيا في صدارة الدول التي تشكّل الأقطاب الأساسية لهذا العالم في العقود القادمة. لقد كان عام 2018 كريماً بناره الكاشفة لحقائق الأمور، والمتأمل المتأني لأحداث العام المنصرم قد لا يجد صعوبة في استقراء أحداث عام قادم لن ينشغل الناس خلاله بالتصريحات الجوفاء الفارغة بل سيركزون على الأحداث الواقعية والأفعال، وسوف يغيّرون في العام القادم وحدات القياس حيث تنتفي أهمية التصريحات التي أثبت أصحابها افتقارهم إلى المصداقية، ويتم التركيز فقط على الذين يصدقون القول والفعل. لن يضيع الناس وقتاً في تصفح ما يسفُّ به الآخرون وسوف تسقط أسماء كما سقطت وريقات أشجار الخريف وتبقى فقط تلك الأسماء التي تتمتع بالصدق واحترام ذكاء الآخرين.
بما أن عام 2018 كان عاماً كاشفاً سيكون من الأسهل على الجميع مقاربة عام 2019 بمستوى من الوعي والإدراك يحقّق لنا جميعاً السرعة المطلوبة في فهم الأمور وتقييمها ووضعها في مسارها السليم. وكلّ عام وأنتم بألف خير. عام مثمر ومليء بالإنتاج والفرح أرجوه لكم.