ما بعد الإمبريالية!
أنّ يقف وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، ليقول إن أولوية الولايات المتحدة لم تعد محاربة الإرهاب، بل منافسة القوى العظمى، ويعبّر عن قلقه بأن التفوق العسكري الأميركي يتلاشى، فهذا تصريح مهم للحظة سياسية مهمة، لابدّ من التوقف عندها والتأمل مليّاً بمندرجاتها وأسبابها ومنعكساتها. وأن يّرد عليه وزير خارجية روسيا الاتحادية سيرغي لافروف بأن «الاستقرار الإستراتيجي لا يتحقق إلا بالتعاون مع روسيا، والصين»، فهذا جواب مهم جداً لا بدّ وأن نحلّل أيضاً متطلبات تحقيقه في ظلّ الموقف الأميركي المناقض تماماً لتطلعات الشعوب بالسلام والاستقرار والأمن والازدهار.
أن يصدر التصريح عن ماتيس، وليس عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب فهذا مهم أيضاً، كي لا يتمّ تصنيف هذا التصريح بأنه جزء من هذيان ترامب، وجنونه الشخصي المعتاد، بل من مسؤول أميركي يتربع على قمة المواجهة العلنية للحكومة العميقة التي تحكم فعلياً الولايات المتحدة، والتي تمثل مصالح النخبة المالكة لأكثر من 85 بالمئة من الثروة في الولايات المتحدة.
يعرف الباحثون المختصون في الشأن الأميركي أن أولوية الأولويات بالنسبة لهذه النخبة المالكة في الولايات المتحدة، هي أن تبقى قطباً واحداً مهيمناً اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً في العالم، وألا يسمح لأي قوة أخرى أن تشكّل قطباً آخر في هذا العالم، كي تنهب ثروات الشعوب كما فعلت قبلها القوى الاستعمارية، ومن هنا انطلقت كلّ محاولات وخطط الولايات المتحدة الاستخباراتية وغيرها على مدى عقود إلى أن تمّ تقويض الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن الماضي.
وبعد أن انفردت الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم ومؤسساته، ومصادر ثرواته، وأممه المتحدة على مدى عقدين ونيّف، فهي لا تريد لهذا الواقع أن يتغيّر مهما بلغت الأثمان، ولذلك فإن الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق وليبيا وسورية، ومؤخراً على اليمن، لم تكن تهدف إلى محاربة الإرهاب أصلاً، فالولايات المتحدة هي من اخترعته، وأنشأت منظماته ودربتها وسلحتها ومولتها، عن طريق أتباعها حكّام السعودية، ورجال الأعمال الإسلاميين، بل كانت الولايات المتحدة تهدف بذلك إلى نشر الإرهاب، وتقويض الخطوات الصاعدة لروسيا والصين اللتين بدأتا ترتقيان على سلّم القطب العالمي الجديد، ومن هنا فإن تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «أنّ محاربة الإرهاب في سورية هو دفاع عن موسكو»، تصريح ثاقب ودقيق يستشف الهدف النهائي للحرب الإرهابية الأميركية على العرب، وحليفتهم إيران، وكذلك فإن موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتمد على أن الدفاع عن سورية في مواجهة الإرهاب، هو دفاع عن إيران، هو موقف دقيق أيضاً، وسليم سياسياً وإستراتيجياً، ناهيك عن الصداقة التاريخية بين الدولتين والشعبين.
ولكن رغم كلّ جهودهم لإسقاط الدولة السورية، وتفكيك محور المقاومة، وتقسيم العراق من خلال خلق كيان كردي في شمال العراق، فقد منيت تلك الجهود بالفشل بفضل تضحيات الجيش العربي السوري وقواته الرديفة، وثبات الحلفاء مع هذا الموقف سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي اضطر الحكومة العميقة في الولايات المتحدة إلى البحث عن السيناريو البديل.
وفي البحث عن هذا السيناريو البديل لديهما أولويتان: الأولى هي كبح جماح أي قطب صاعد جديد بأي طريقة كانت، وخاصة من خلال العمل الإرهابي المخابراتي، والثانية هي تنشيط عجلة الاقتصاد الأميركي ليبقى القاطرة التي تسحب الاقتصاد العالمي فيتراكم المزيد من ثروات الشعوب لدى النخبة المالكة في الولايات المتحدة مستخدمة حكومتها العميقة.
تصريح وزير الدفاع الأميركي الصاخب ضد روسيا والصين، يعبّر عن مدى قلق هذه النخبة وحكومتها العميقة بأن هذا القطب الروسي الصيني، أصبح أمراً واقعاً، وتصريحه أن التفوق العسكري الأميركي يتلاشى تعبير عن الشعور بأزمة اقتصادية عميقة سببها عدم وجود حروب كافية كي تبقى الصناعات العسكرية الأميركية نشطة، ومدرّة للأرباح العالية التي تشكّل اليوم القاطرة الأولى للاقتصاد الأميركي.
لقد اعتمد الاقتصاد الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية بشكل أساسي على نمو الصناعات العسكرية على حساب الصناعات والقطاعات الاقتصادية الأخرى فأصبحت العمود الفقري لهذا الاقتصاد بعد أن ضمّت المؤسسات الإعلامية والمالية إليها.
وهذه الصناعات بحاجة ماسة إلى حروب جديدة متواصلة، كي يشتري الجيش الأميركي وجيوش الدول التابعة للولايات المتحدة منتجات هذه الصناعة، ويستولي على موارد جديدة تغذّي بدورها مالكي هذه الصناعات الدموية.
ولذلك فإن عدم وجود حروب كبيرة ومتواصلة يعني بالنسبة للولايات المتحدة، ليس فقط تلاشي تفوقها العسكري وإنما أيضاً الركود الاقتصادي، وقد حاولوا معالجة هذا الركود من خلال سرقة آلاف الأطنان من الذهب العراقي والليبي، ونهب أكثر من 800 مليار دولار من العراق لا أحد يعلم منتهاها، وأخذ ترامب أكثر من 500 مليار دولار كجزية من السعودية مؤخراً مقابل بقاء حكامها في السلطة.
كل هذا لن ينعش الصناعة العسكرية الأميركية ويخلق دورة في الاقتصاد إذا لم تكن هناك حروب كبرى متواصلة في العالم تسمح للجيش الأميركي بشراء الأسلحة ودفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام، ولهذا فإن ردّ الوزير لافروف على وزير الدفاع الأميركي أن الاستقرار الإستراتيجي لا يتحقق إلا بالتعاون مع روسيا والصين هو ردّ من يؤمن بالتكامل وبأهمية العلاقات بين الدول المبنية على أسس إحلال الأمن والاستقرار بالعالم، وهو الرد القانوني والإنساني غير المعني بالمشكلة البنيوية التي يعاني منها اقتصاد ما بعد الإمبريالية في الولايات المتحدة اليوم، والتي لا يمكن حلّها إلا من خلال اختلاق متواصل لحروب كبرى لتشغيل مصانع السلاح الأميركية.
هذه هي الأزمة البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي، والتي تمتد ظلالها إلى معظم اقتصادات العالم، وهذه هي مصيبة البشرية اليوم أن اقتصاد أقوى دولة في العالم بني على أساس صناعة دموية تدميرية، واختلاق الحروب في العالم كي تحتفظ أميركا بقوتها الاقتصادية.