مقالات

مسلمو الصين ومسيحيو بلاد الشام

إن ادعاء الولايات المتحدة حرصها على مسلمي شينجيانغ لا يقابله سوى ادعائها الحرص على مسيحيّي سوريا والعراق ولبنان.

في الشهرين الأخيرين أصدرت الولايات المتحدة قرارين من مجلس النواب ضدّ الصين أحدهما يتعلق بهونغ كونغ  في 16 تشرين الأول 2019، والثاني يتعلق بالمسلمين في منطقة شينجيانع في 3 كانون الأول 2019.

أما القرار الأول فقد تمّت تسميته: قرار حقوق الإنسان والديمقراطية في هونغ كونغ للعام 2019. وقد كشفت الأحداث في هونغ كونغ عن تبنّي الولايات المتحدة لمثيري الشغب في الإقليم، وتطبيقها ما تطبّقه على بلدان عديدة في الشرق الأوسط من خلال تبنّي مجموعات تثير الشغب وتعمل ضدّ حكوماتها أو تطالب بالانفصال.

ولا شكّ في أن مثل هذا القانون يعتبر تدخلاً سافراً في شؤون دولة أخرى ذات سيادة. ولتوضيح ذلك، لنتخيل الصين مثلاً تدعو إلى احترام حقوق سكان ولاية أميركية يعمدون إلى إثارة الشغب وخلق الفوضى لتحقيق أهداف لهم تتعارض مع وحدة الولايات المتحدة وأمنها.

والقرار الأخطر الذي اتخذه مجلس النواب الأميركي في 3 كانون الأول عام 2019، يتعلق بمسلمي منطقة شينجيانغ؛ حيث تدّعي الولايات المتحدة أنّ الصين تحتجز مليوناً من الإيغور، كما تتّهم القانون الصيني بالتمييز الممنهج ضدّ الإيغور من خلال حرمانهم حقوقهم المدنية والسياسية بما في ذلك حرية التعبير والدين والحركة والمحاكمة العادلة.

ولكنّ واقع الحال يختلف اختلافاً جذرياً عمّا تدّعيه الولايات المتحدة كي تستهدف الصين بناءً على ادعاءاتها، لأنّ واقع الحال يُري أنّ الصين قد أصدرت في آب عام 2019 ما سمّته الكتاب الأبيض الصادر عن مكتب الإعلام لمجلس الدولة الصيني، والذي ينصّ على أنّ الإرهاب والتطرف عدوّان مشتركان للبشرية وعلى أن مكافحة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية مشتركة للمجتمع الدولي.

ومن أجل مكافحة الإرهاب الذي تعرّضت له شينجيانغ، فقد تمّ تأسيس مركز للتعليم والتدريب المهنيين لمنع تنامي وانتشار الإرهاب والتطرف الديني، ونصّ الكتاب على أنّ شينجيانغ تحتاج إلى التعليم والتدريب بشكل عاجل، وذلك نتيجة سطوة التطرف الديني، حيث تمّ تسميم عقول العديد من الناس. لا شكّ في أن التعليم والتدريب يمثّلان العلاج الأنجع والأفضل لمقاومة العناصر الإرهابيين، وتغيير البيئة التي تساعد في زرع بذور التطرف، خاصة وأن مراكز التعليم والتدريب لا تتدخل أبداً في حرية المعتقدات الدينية للمتدربين، ولكنها تعمل على بثّ الوعي بين صفوفهم وخلق شعور أعمق بالمواطنة، وخلق فرص أفضل لمن فقد فرصته في التعليم والتدريب، وتحسين مستوى المعيشة ومستوى الوعي لدى هؤلاء كي يكونوا محصّنين لرعاية مصالحهم الشخصية والوطنية.

ولا شكّ في أنّ هذه الخطوات الواعية والمدروسة تشكّل نموذجاً لمكافحة الإرهاب على مستوى الوعي المجتمعي في أيّ بقعة في العالم. لأنّ الحلّ الأمثل لمكافحة الإرهاب لا يكمن فقط في التخلص من الإرهابيين، ولكن يكمن في تغيير الوعي المجتمعي واستبدال الانتماء العشائري والديني بالانتماء الوطني، وتحسين مستوى التعليم والدخل للفئات التي يتمّ تجنيد الإرهابيين من خلالها، وتجفيف تربة الإرهاب حيثما وُجدت، من خلال إجراءات طويلة ومكلفة، لكنها الوحيدة التي تقضي على الإرهاب كفكر وثقافة وليس كأشخاص فقط. وتأتي خطة الصين لمنطقة شينجيانغ جزءاً من الخطة المتكاملة لمكافحة الفقر في الصين والتي تشكل إحدى الركائز الأساسية للخطة الصينية لعام 2030 وعام 2050 أيضاً.

ولكنّ ادعاء الولايات المتحدة أنها حريصة على مسلمي الإيغور في الصين، وأنها تعتبر الإجراءات الصينية في شينجيانغ منافية لحقوق الإنسان مثير للاستغراب؛ فمتى كانت الولايات المتحدة حريصة على حياة وأمن وسلامة المسلمين في فلسطين مثلاً؟! حيث يقوم الكيان الغاصب بهدم المقدّسات والمباني القديمة الجميلة، ويقوم بتهجير السكان الأصليين في أعمال إبادة وقسر وتهجير وتنكيل يجب أن يندى لها جبين البشرية، ومع ذلك تصدر الولايات المتحدة القرار تلو الآخر لشرعنة الاستيطان والاحتلال من دون خجل أو وجل.

إن ادعاء الولايات المتحدة حرصها على مسلمي شينجيانغ لا يقابله سوى ادعائها الحرص على مسيحيّي سوريا والعراق ولبنان، والذين عاشوا على هذه الأرض التي انطلقت رسالة سيدنا المسيح منها أصلاً إلى البشرية، وبقيت شعوب هذه المنطقة منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم متحابّة، ومنصهرة في بوتقة اجتماعية وثقافية قلّ نظيرها، إلى أن حلّ الاستعمار الأميركي في العراق، فقامت أدواته بقتل الأيزيديين والصابئة وتهجير المسيحيين. والشيء ذاته فعلوه خلال الحرب على سوريا؛ حيث إنّ قصص الأطفال والنساء الأيزيديين والصابئة والمسيحيين والمسلمين تروي استهدافاً ممنهجاً لهذه الفئات، لاقتلاعها من جذورها، أو دفعها إلى الهجرة، كي يسهل استهداف المسلمين بعد وسمهم بالإرهاب.

إنّ قرار مجلس النواب والذي سمّوه التدخل من أجل الإيغور وضرورة تجاوب إنساني موحد ضدّ الصين، له علاقة وطيدة بالقرار الذي اتخذه حلف الناتو في اجتماعه الأخير في لندن في 3 كانون الأول 2019، والذي اعتبر أنّ الصين خطر صاعد ضدّ الحلفاء الغربيين، وأنّ مستواها الاقتصادي وتطورها الصناعي يعتبران خطراً على جميع الحلفاء، وهذا هو السبب الحقيقي وراء استهداف الكونغرس الأميركي للصين بقراراته غير المشروعة حول هونغ كونغ أو شينجيانغ.

لا شكّ في أن القوانين الصادرة عن الكونغرس الأميركي سواء بشأن هونغ كونغ أم بشأن إقليم شينجيانغ لا علاقة لها بالحرية أو بالديمقراطية أو حقوق الإنسان، ولكن علاقتها الوحيدة هي بالخوف من صعود الصين اقتصادياً وثقافياً وبقدرتها على إنهاء القطب الواحد في العالم، حيث تحلّ الصين قطباً مرحباً به ومؤمناً بالمشاركة والندّية وحقوق الإنسان. ولا شكّ في أن مبادرة “حزام واحد وطريق واحد” التي اقترحتها الصين على العالم والتي أثمرت إلى حدّ اليوم أكثر من مئة مشروع تشكل كابوساً للولايات المتحدة والدول الغربية لأنها تعني أنّ الصين تنتقل إلى مرحلة العملاق الاقتصادي الصيني، وأنها شيئاً فشيئاً تقيم علاقاتها التجارية بالتبادل بالعملات المحلية وليس من خلال الدولار، الأمر الذي يهدّد الزعامة الاقتصادية للولايات المتحدة للعالم.

لقد تبنّت الصين مع دول عديدة وعلى رأسها روسيا التعامل بالعملات المحلية واستيراد النفط باليوان الصيني، وإذا ما استمرّت الصين في هذه السياسة فإنها خلال السنوات العشر المقبلة ستضعف الدولار، وستصبح هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم. هذا بالضبط ما يكمن وراء قرارات الكونغرس الأميركي بشأن إقليم شينجيانغ، والذي يستحقّ أن يصبح نموذجاً للاندماج الوطني الذي تخطط له وتنفذه الحكومة الصينية في هذا الإقليم وفي المجالات كافة.

لم تعد الولايات المتحدة قادرة على إقناع أحد بأنها راعية للديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد أصبح واضحاً للجميع أنها تتخذ من هذه المسائل غطاءً لتنفيذ سياساتها الطامعة بثروات البلدان الأخرى أو الهادفة إلى إثارة القلاقل في هذه البلدان وتوجيه ضربة للحضارات القديمة المتمسّكة بهويتها. وفي الصين، كما في الوطن العربي، مجتمعات عاشت آلاف السنين، متعاونة ومتآلفة إلى أن بدأ الغرب بزرع بذور الفتنة والتقسيم والتطرّف، ولا شكّ في أن من حقّ هذه الدول بل ومن واجبها أيضاً أن تتخذ الإجراءات التي تحمي أبناء شعبها من التخلف والتطرّف وخطر الانسياق وراء الخطط الهدّامة والتي تستهدف البلاد والعباد.

تجربة الصين في شينجيانغ جديرة بأن تُدرّس في كل الدول العاملة على تحصين ذاتها، ويمكن لأعضاء الكونغرس أن يوفروا على أنفسهم عناء اتخاذ قرارات لدعم حقوق الإنسان والديمقراطية، فعالم الجنوب اليوم يعكف على وضع نظمه التي تضمن فعلاً حقوق الإنسان، كلٌّ وفق حضارته وموروثه التاريخي ومؤهلات شعبه وطموحاته.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى