تشعر وأنت تقرأ مقال توماس فريدمان في جريدة نيويورك تايمز، بتاريخ 15/12/2022 أنّك كنت غائباً عن هذا العالم أو نائماً نومة أهل الكهف، وأنّ هذا المقال يفتح عينيك على كلّ ما يجب أن تعرفه عن آخر الأحداث في فلسطين، وإن كان عنوان مقاله: «ماذا في العالم يحدث في “إسرائيل”»؛ أي أنّه ومن العنوان لم يعترف بفلسطين ولا بالحقّ الفلسطينيّ، وكي يزيد ثقتك بأنّ هذا هو النصّ الوحيد الذي عليك أن تقرأه كي تفهم القصّة المعقّدة لما يجري في فلسطين المحتلّة، أضاف إلى العنوان المضلِّل عنواناً فرعياً، وهو أنّه تمّ تحديث هذا المقال كي يأخذ بعين الاعتبار تطوّرات الأخبار.
وقد نفى في بداية المقال إمكانية حلّ الدولتين، الذي أصبح شبه مستحيل، ولكن مخيلته جادت بحلول قد توهم غير المهتمّين حقيقةً والمتابعين للشأن الفلسطينيّ بدقّة بحرصه على حل هذه “المسألة” على أسس إنسانية وواقعيّة ولمصلحة الطرفين “المتخاصمين”، وبعض القواعد التي استند إليها للتوصّل إلى حلوله المقترحة المتخيَّلة هي أنّ المجتمعين الفلسطينيّ و”الإسرائيلي”، ورغم بعض الأحداث، قد عاشا في حالة من التوازن منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، والشكر يعود للاقتحامات “الإسرائيلية”، وعمل السلطة الفلسطينية، والنموّ الاقتصادي، ومجموعة كبيرة من المهادنات “وضبط النفس” التي قامت بها جميع الأطراف.
ولإعطاء روايته مصداقية، يشير إلى إحصائية «منظّمة بتسليم الإسرائيلية» أنّه في العام الماضي “مات 20 إسرائيلياً”، و”150” فلسطينياً في أحداث عنف. لقد أعلنت منظّمات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومهتمون كثر أنّ عام 2022 كان الأعنف الذي أعدمت فيه مخابرات وجنود الكيان الصهيونيّ رقماً قياسياً من المدنيين الفلسطينيين، وخاصّة الشباب والأطفال، والذي هو الأعلى منذ عقود. وأيضاً، وفي محاولة تضليلية أخرى، يعتبر الأقصى أيضاً مهمّاً للمسلمين، العبارة التي توحي أنّ أهميته الأولى هي للطرف الآخر، وأنّ الإرهابي العنصريّ بن غفير محقّ فيما يقوم به، مع أنّ جنوده العنصريين رفعوا شعار “طلقة واحدة يجب أن تقتل، من دون أسف، نحن أصحاب القرار”.
ثمّ يروي للقارئ كيف أنّ عدداً من الإسرائيليين اليساريين ذهبوا لدعم الفلسطينيين في مواجهة اليمين المتطرّف، الذي أصبح الجزّار بن غفير الإرهابي قائداً رسمياً له، وأنّ “القضاء” الصهيونيّ قد حكم على الجندي الذي قتل فلسطينياً بالسجن ثلاثة أشهر، ليقنع القارئ أنّ هذا الكيان يطبّق “القانون” وإلى ما هنالك من سرديات مضلّلة هدفها الأساس هو الدعاية لتغطية جرائم هذا الكيان الصهيوني العنصريّ، وتشوّيه أصول الحقّ الفلسطينيّ، وتبرير الجرائم التي تُرتكب بحقّ هذا الشعب يومياً من قبل قوات نظام الأبارثايد الصهيوني، والتي يجب أن يندى لها جبين أيّ إنسان، وهو يتفادى ذكر جرائم الأبارثايد الصهيوني في تدمير القرى الفلسطينية لمرّات من قبل قوّات الكيان العنصريّ، فيقول فريدمان إنّ المجتمعات “البدوية” والمدارس العامة في الجنوب قد عانت من بعض الإهمال.
السبب في أنني أتناول هذا المقال المسيء جداً للحقّ الفلسطيني والحقّ العربي، والمشوِّه لحقيقة الإجرام العنصري الذي يتمّ ارتكابه من قبل العصابات الصهيونية في الاستيلاء على الأرض، وقتل الشباب الفلسطيني بدم بارد، واقتطاع عقود من عمر شباب وشابات في الأسر، هو أنّ مثل هذه السرديات لا تهدف فقط إلى تشويه الحاضر في أذهان القرّاء، وإنما تهدف أيضاً إلى تثبيت سرديات تاريخية في أذهان الأجيال القادمة، فتكون مثل هذه المواد متاحة للباحثين والكتاب المهتمين بهذا الشأن، وتصبح المستند الذي يبنون عليه استنتاجاتهم البحثية، وينالون شهادات الماجستير والدكتوراه في إعدام آخر ليس فقط للشباب الفلسطينيّ، وإنما لحقّ أبنائهم في محاكمة القتلة واسترداد حقوقهم ولو بعد حين.
وكمثال قريب لم يمضِ عليه زمن، فقد تداول بعض القرّاء مؤخراً مقالاً نشرته مجلّة النيويورك تايمز عام 2016، وأفردت له مساحة كاملة بعنوان: «الأرض المتصدّعة: كيف تُمزّق العالم العربي». وتصدّر هذا النصّ مقدمة من قبل رئيس تحرير المجلة جيك سيلفرستون، أشار فيها إلى عدد المراسلين من دول مختلفة الذين ساهموا في إنتاج هذا النصّ، والمصوّرين، وحرصهم على أن يقولوا حقيقة ما حدث، واعتذارهم عن طول النصّ الذي تمّ تكريس عدد المجلة كاملاً له في 2016، ويركّز على حياة أناس من دول مختلفة، وكيف أنّ هذا الغزو الأميركي الغاشم للعراق قد غيّر حياة كثيرين، وأنهى حياة أكثر من مليون عراقي.
ومع أنّ البعض محقّ في القول، إنّهم على الأقلّ يعترفون بما فعلوه ولو بعد حين، ولكن لا بدّ من ذكر أمرين اثنين هنا: أولاً أنّ اعتراف مجلّة أميركية معادية للعرب ببعض من كارثة دمويّة غير مبرّرة حلّت ببلد غني عريق مثل العراق، لن يغنيَ أهله عن شيء، وخاصّة أنّ الاستهداف مستمرّ على المستوى السياسيّ، وأنّه من الممنوع على العراق حتى اليوم أن يتواءم مع جارته سوريا على سبيل المثال، أو أن يخرج من العباءة الطائفية التي خطّها بريمر لمستقبل العراق والعراقيين.
ولكن الأمر الآخر والأهمّ هو أين هي الرواية الدقيقة الكاملة لما حدث في العراق، والتي تمّ توثيقها من قبل مرجعيّة عربية تعلم علم اليقين أبعاد ما حلّ بالعراق، وتلقي ضوءاً على ما كان للعراق والشعب العراقيّ من خير وثروات وقوّة اقتصادية وفكرية. ولا شكّ أنّ تدمير هذه البنية كلّها لم يكن ضرورياً حتى لتغيير نظام سياسيّ، مع أنّ هذا ليس من مسؤولية الولايات المتحدة التي تذرّعت بذرائع كاذبة لغزو العراق، والذي لم يذكره مثل هذا الاستقصاء الذي لاقى المديح حتى من كتاب ومثقفين.
لقد اعتبروا أنّه دلالة على الإعلام الحرّ، وأنّ الآخرين يكتبون ويعترفون بأخطائهم ولكنَّ الولايات المتحدة اليوم، ومنذ غزو العراق، تنهب نفط العراق، وتمنع أيّ استقرار سياسي في العراق كي لا تعود ثروات هذا البلد ليد أبنائه، ولخدمة ورفاه شعبه. أي أنهم يذكرون بعض ما حدث من دون كشف الغطاء عن جوهر ومنطلق وهدف العملية برمّتها.
الاستنتاج من كلا البحثين اللذين تمّ الترويج لهما في بلداننا العربية هو أنّه لا يجوز ولا بأيّ شكل أو منطق أن تقرأ تاريخك بأقلام وأعين أعدائك، وأنّ من أول واجبات أصحاب القضية، أيّ قضية، ليس فقط أن يدافعوا عنها، وإنما أن يخطّوا سردياتها بأقلامهم هم، وأن يسجّلوا تاريخها للأجيال القادمة احتراماً وإنصافاً لمن ضحّوا من أجلها، وحرصاً على أن تأخذ الأجيال القادمة حقّها في الثّأر لآبائها وأجدادها، أو في تصويب المسار والسمعة والسردية التي قد يجود بها المؤمنون بخدمة أهدافهم الاستعمارية المعادية للعرب.
لقد ناضلت كلّ دولنا العربية لنيل استقلالها من المحتلّ الاستعماري لكنّها لم تولِ تسجيل الأحداث الأهمية التي تستحقّها وما زال هذا النقص قائماً في ثقافتنا، وهو نقص خطير يؤثّر ليس فقط على المرجعية المستقبلية، وإنما على المرجعية الراهنة، وحتى على سير المعارك إذا كان الصراع ما زال قائماً كما هو الحال في الشأن الفلسطيني وشؤون أخرى في الواقع العربي بحاجة ماسّة إلى تخصيص موارد لدعم إحقاق الحقوق إعلامياً وتاريخياً وفكرياً.
هؤلاء الذين يضحّون بأنفسهم ليصنعوا تاريخ بلدانهم المشرّف ينتظرون على الأقلّ أن ننصفهم ونسجّل ونوثّق ما حدث وألّا نسمح للأعداء أن يصادروا حقيقة ما جرى، ويسجّلوا الوثيقة التي تخدم أهدافهم، وتبخس نضالنا وتضحياتنا ودماء أبنائنا المؤمنين بأوطانهم والصادقين.