منهج روسيا ومنهج الغرب
لا بدّ من التوقف ملياً عند كلمة الرئيس بوتين، التي قال فيها إن «الغرب دعم الثورات الملونة وأحداث الربيع العربي ما أدى إلى تفشي الفوضى». وأضاف «إن دولاً غربية أيدت كذلك الانقلاب في أوكرانيا بدلاً من دعم الانتخابات الشرعية مشيراً إلى أن منهج روسيا في هذا المجال يختلف كثيراً ويتمثل في «سياسة تعاون وإيجاد حلول وسط». وعلّ خير مثال لاختلاف منهج روسيا بالفعل يتمثل في المقارنة بين موقف الاتحاد الأوروبي الذي جدّد العقوبات التي فرضها على روسيا لمدة عام قبيل انعقاد المؤتمر الاقتصادي في سانت بطرسبورغ وبين دعوة الرئيس بوتين الاتحاد الأوروبي إلى استئناف الحوار وإعلانه استعداد روسيا لإبداء المرونة. لا شك أن الرئيس بوتين قد علم قبل إلقاء كلمته أن أوروبا قد جدّدت تمديد العقوبات الاقتصادية على روسيا ومع ذلك هو لم يلجأ إلى الردّ عليهم بالمثل أو انتقادهم لفعل ذلك، بل تحدّث بدلاً من ذلك عن رغبة رجال الأعمال الأوروبيين لاستئناف هذه العلاقات واستعداد روسيا لاستئناف الحوار وإبداء المرونة. أي إنه فعلاً كقائد سما بنفسه عن أساليب الغرب الاستعمارية التي ينتقدها في خطابه وبرهن أنه يعمل وفق منهج روسي مختلف تماماً عن المنهج الغربي وأنه يرتكز في منهجه على الدعوة للتعاون وإيجاد حلول وسط.
هذا الفرق بين المنهجين الغربي والروسي ليس فرقاً صغيراً أو طارئاً أو هامشياً، بل هو فرق يؤثر في شكل العالم الجديد ويترك تبعات كارثية على حياة ملايين الناس الأبرياء في أصقاع الأرض كلها. إلى حد يمكن اعتبار مثل هذه العقوبات والحصار جرائم ضد الإنسانية كما هو الحال مع العراق حيث فتكت العقوبات الغربية بمليون طفل عراقي. إذ إن السياسة التي ينتهجها الغرب تتلخص باختلاق ثورات المرتزقة والإرهابيين في بلداننا ودعمهم بالتدريب والمال والسلاح وتخطيط السياسة الإعلامية معتقداً أن النار التي يشعلها هنا ستبقى بعيدة عن مواطنيه هو. إن هذه السياسة أثبتت فشلها إلا في قتل وتشريد الملايين من المدنيين العزّل وتخريب حياتهم، لأنها لا تؤمن بعالم واحد ولا بتأثير الأحداث ببعضها في بلدان مختلفة من العالم. فكيف يعتقد الغرب أن العالم أصبح قرية تكنولوجية واحدة ويدعو إلى تعميم التجارة الحرّة بين البلدان والتبادل اللامحدود في السلع والبضائع وفي الوقت ذاته يصدر مثل هذه العقوبات ويفرض الحصار لأنه يظنّ أن الأفكار العنصرية التي يصدّرها إلى بلداننا أو يمارسها ضد مواطنين أجانب في دياره لن تمسّ أبناءه ولن تضير حياتهم في شيء. وفي كل مرّة تصفع الحوادث هذا المبدأ الغربي في وجهه وتبرهن أن ما يزرعه الغرب في بلداننا من عنف وفوضى وإرهاب وحروب يرتدّ عليه عاجلاً أم آجلاً، يعمد الغرب إلى اختلاق التفسيرات والأعذار التي تحاول إبعاد الأذهان عن هذا التحليل الواقعي والصائب. فأنا أتذكر أني قرأت مقابلة واحدة لتيموثي ما كفي الذي ارتكب عملاً فظيعاً في مدينة أوكلاهوما الأميركية مُنع بعدها من قول كلمة واحدة إلى الإعلام وتمّ إعدامه بعد ذلك ودفنت أسباب جريمته معه. في تلك المقابلة قال ما كفي لقد كنت جندياً في العراق وقد شهدت قتل مئات الأطفال العراقيين وحين عدت إلى الولايات المتحدة أردت أن يشعر الأميركيون ماذا يعني قتل طفل لعائلة ما، ولذلك توجّهت إلى روضة الأطفال وفجرتها كي يشعر الآباء والأمهات الأميركان بالفقد الذي شعر به الآباء والأمهات العراقيون. كانت هذه مقابلة وحيدة مُنع بعدها ماكفي من قول أي كلمة للإعلام واختفت هذه المقابلة ذاتها من السجلات الإعلامية. وفي كل مرة يتم ارتكاب عمل إرهابي في باريس أو بروكسل أو أورلاندو نجد أن التفسيرات التي تواكب هذا الخبر لا تلامس من قريب أو بعيد صلة هذا الخبر بما يجري بمناطق أخرى في العالم وبدفع وتمويل وتشجيع غربي.
الأمر ذاته شهدته حين تمّ اغتيال وزيرة خارجية السويد آن ليند في قلب استوكهولم في 11 أيلول 2003، تلك المرأة الشجاعة الشابة تاركة طفلين جميلين لم يعرفا لماذا حكم على والدتهما بالموت. وكانت آن ليند من أشدّ المؤيدين للقضية الفلسطينية وحاولت مراراً أن تنقل معاناة الفلسطينيين وآلامهم إلى ضمير العالم وزارت الأراضي المحتلة أكثر من مرة وأُوقفت من سلطات الاحتلال، ولكن حين ارتُكبت جريمة اغتيالها لم يتم ذكر كل هذا الأمر بل ركزت الأخبار على أن القاتل مختل عقلياً أي إنه لا يوجد أي دافع سياسي أو سواه وراء قتلها بل هو قتل عبثي لا أكثر. ومنذ أيام أيضاً شاهدنا اغتيال جو كوكس البالغة من العمر 41 عاماً في مدينة بيرستل البريطانية أيضاً تاركة وراءها طفلين جميلين وتناولت الأخبار أن القاتل قال لها «ركزي على بريطانيا فقط» ذلك لأنها معروفة باهتمامها بموضوع اللاجئين السوريين ومقاربتها الإنسانية لموضوع الأجانب، وكيفية التعامل مع هذا الملف، ولفت الأنظار إلى خطر الحروب التي يشعلها الغرب خارج حدوده. ومرة أخرى يتمّ الإيحاء أن القاتل مختل عقلياً. هي وآن ليند وغيرهما كثر، هم ضحايا تقسيم العالم من الساسة الغربيين إلى غرب وشرق وانتهاج أساسيب بث العنف والإرهاب والفوضى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية معتقدين أن هذه الفوضى لن تلامس حدود الولايات المتحدة وأوروبا. ولكنّ العنصرية التي يزرعونها في عقول وقلوب الشباب والتعامل مع العدوان اليومي على الفلسطينيين ودعمهم الإرهاب الوهابي في سورية والعراق وليبيا واليمن وكأنه أمر عادي لا بدّ أن يشجّع المتطرفين في البلدان الأوروبية ذاتها لارتكاب جرائم بحق كل من يخالفهم الرأي حتى وإن كان من أبناء جلدتهم.
إذاً المنهج الذي يدعو له الرئيس الروسي بوتين من سياسة تعاون وإيجاد حلول وسط هو منهج مناقض تماماً للمنهج الغربي القائم على مبدأ بوش الإبن «من ليس معنا فهو ضدنا» القائم على التمييز والاستعمار والعنصرية ضد شعوب الأرض الأخرى. منهج الرئيس بوتين هو منهج عالم واحد يعيش به أبناء البشرية جميعاً دون تصنيفهم وفق اللون أو الدين أو الجنس في حين المنهج الذي يتبعه الغرب يعمد إلى تكريس فكرة التفوق الغربي على كل شعوب الأرض وإثارة الحروب والفتن من أجل إضعاف الدول وإرغامها على تبني الأسلوب الغربي طريقة في الحكم والحياة، رغم مقتل وتشريد وتدمير حياة عشرات الملايين من المدنيين الأبرياء.
نحن الآن على مفترق الطرق هذا فإما أن يتحلّى الغربيون بالحكمة ويعمدون فعلاً إلى التعاون من أجل خلق عالم واحد للبشر جميعاً، أو أن الفتن والحروب والإرهاب سيضرب في كل أرجاء المعمورة بما فيها الدول الغربية ذاتها.