مقالات

موقف!

د. بثينة شعبان

أثارت حفيظتي استقالة رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، بعد أربعة أشهر من تعاملها بشكل مخزٍ مع زملائها وطلابها الذين خرجوا باحتجاج سلمي على حرب إبادة قذرة ومُدانة تشنّها عصابات صهيونية على سكان أصليين آمنين مطمئنين. كما سجّلت شفيق على نفسها سابقة غير محمودة أبداً لا لأمريكا ولا عالمياً ألا وهي استدعاؤها الشرطة إلى حرم الجامعة متجاهلة أنّ كلمة “حَرَم” تعني أنه محرّم على أيّ سلطة عسكرية أو مسلّحة أن تطأ أرض الجامعة. وبدلاً من أن تنحاز للحقّ وأصحاب الحقوق وتقف على الجانب الصحيح من التاريخ اختارت شفيق أن تستجيب لكلّ ما يطلب منها مؤيدو العصابات الصهيونية طمعاً في استرضائهم، والحفاظ على موقعها وميزاتها. ولكنها كان يجب أن تعرف أفضل من ذلك وأن تتذكّر أنّ استرضاء هؤلاء وغيرهم على حساب الضمير وإحقاق الحقّ، مهما كان الثمن، لا يقود في النتيجة إلا إلى الذلّ والمهانة وخسارة كلّ شيء بدءاً بالكرامة وانتهاء بالموقع وميزاته.

لقد كان مُخجلاً بالفعل أنه في الوقت الذي استدعت فيه شفيق شرطة نيويورك إلى الحرم الجامعي لإخلاء مخيّم طلابي سلمي مؤيّد للفلسطينيين في 18 نيسان 2024 أعلن رئيس شرطة نيويورك أنه لا يرى سبباً لدخول الحرم الجامعي، خاصّة وأنّ الاعتصام سلمي، وأنّ كلّ ما قاله الطلاب وأعلنوه يؤكّد على سلمية مواقفهم ومحاولتهم دعم الفلسطينيين، ولفتِ أنظار الشعب الأمريكي والعالم إلى معاناتهم دون أيّ شغب أو عنف. لقد كانت الطريقة التي تمّ التحقيق بها مع شفيق مُهينة، والأمر ذاته ينطبق على التحقيق الذي أُجري في الكونغرس مع رئيسة جامعة هارفارد ولكنّ رئيسة جامعة هارفارد استقالت مباشرةً بعده معلنة على الأقلّ رفضها للإهانة التي وُجّهت لها. بينما تعهّدت شفيق علناً أمام لجنة بالكونغرس أنها ستعاقب العديد من أعضاء هيئة التدريس الذين يتبنّون وجهات نظر ضدّ إسرائيل.

وإذا كانت شفيق تدعو في رسالة الاستقالة إلى فعل “كلّ ما في وسعنا لمقاومة قوى الاستقطاب في مجتمعنا”، فقد كان موقفها اللامعقول تجاه زملائها وطلابها أوّل موقف مثير للانقسام والاستقطاب في الحراك الجامعي الأمريكي، وقدّمت بذلك سابقة غير محمودة عن مكانة الأستاذ الجامعي والتزامه بالأسس والمفاهيم والمواقف التي يدرّسها لطلابه نظرياً ثمّ يُلقي بها على أوّل مفرق تتعارض به هذه القيم مع مصالحه الشخصية الضيّقة. إذا كان أساتذة ورؤساء جامعات، تُعتبر من الأهمّ في العالم، غير قادرين أن يضربوا مثلاً باتخاذ مواقف نبيلة ومُحقّة مهما كلّفتهم من أثمان، فليس علينا أن نستغرب المآلات التي وصل إليها عالم اليوم والظلم والإجحاف والإرهاب من جهة والعجز المطلق عن وضع حدّ لكلّ هذه الارتكابات وهذه الإبادة المجرمة من جهة أخرى.

في المقلب الآخر تُعتبر استقالة شفيق، ولو متأخرة، انتصاراً للعدالة وقضايا المظلومين لأنّ اسمها اندرج مع هؤلاء الذين لا يفتؤون محاولين استرضاء من يشدّون عضد الظالمين والمجرمين، غير آبهين بدروس التاريخ التي تؤكّد في كلّ خطوة واستدراة أنّ الاسترضاء ليس مُجدياً ولا مستداماً وإنه فقط يطيل أمد الذلّ والهوان والخضوع، ويفوّت على أصحاب المواقف حصاد ثمن مواقفهم إذا ما اتُخذت في الوقت المناسب. والوقت هنا عامل في غاية الأهمية؛ فلو استقالت شفيق في حمأة الحراك الطلابي ورفضت معاقبة أيّ من زملائها وطلابها ورفضت استدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي لكانت ارتدادات موقفها عظيمة على الحراك الطلابي في كلّ مكان وعلى القضية الفلسطينية التي اعتصموا من أجلها.

والتوقيت شأن يتقنه المتحكّمون بمقدرات الأمور ويدركون الفوارق الخفية بين لحظة وأخرى في تعظيم أو تخفيف أثر الحدث ذاته، وهو شأن يستخدمه الإعلام الغربي للتصدّي بحكمة ودهاء بالغين. ففي اليوم الذي أعلنت فيه شفيق استقالتها بعد أربعة أشهر من الحراك صدر تقرير في وسائل الإعلام الغربية عن خط الغاز الروسي لأوروبا، النورد ستريم، ومن قام بتفجيره، وكيف ولماذا وإلى آخر التفاصيل. ولو أنّ هذا التقرير تمّ نشره مباشرة بعد تفجير النورد ستريم لملأ الدنيا وشغل الناس لأنّ هذا كان هو السؤال الجوهري المطروح على الساحة الدولية: من فجّر النورد ستريم؟ وكيف ولماذا؟ وهُدرت آلاف الصفحت في الظنّ والتخمين لهدف أساسيّ مدروس ومرسوم وهو إحالة النظر عن الفاعلين الحقيقيين. أمّا أن يصدر التقرير بعد أن أخذت الحرب في أوكرانيا مساراً مختلفاً، وبعد أن استقرّت إيرادات الغاز لأوروبا من مصادر أخرى غير روسية، فلم يعد أحد مهتماً أن يغوص في تفاصيل ما حدث.

ويتخذ الغرب والإعلام الغربي من تناول الحدث بعد فوات الأوان أسلوباً منهجياً ومدروساً، وذلك لسببين اثنين: السبب الأول هو أنّ التعامل مع الحدث في حينه، وكما يجب، يخلق ارتدادات قد لا تُحمد عقباها وقد تخرج عن السيطرة أو تصبّ في مصالح من يستهدفونه أصلاً. والسبب الثاني هو أنّ تناول الأحداث بعد فترة تبرّئ ذمّة الغرب وتوحي لمتناولي الأمور بسطحية أنّ الغرب شفّاف، وأنه لا يُخفي شيئاً وأنه يُعلن الحقائق ولو بعد حين.

هذان المثالان (استقالة شفيق، وتفجير النورد ستريم) يُريان أنّ أرض المعركة ليست مقتصرة على الجغرافيا التي يرتكب فيها القويّ أبشع الجرائم في حرب إبادة وحشية لا تُبقي ولا تذر، ولكن أرض المعركة تمتدّ على امتداد هذا العالم، وتتغذى من كلّ حركة أو عمل يصبّ في نصرة المظلوم حتى وإن كان بعيداً عن العيان. وما كان لهذه الإبادة الوحشية أن تستمرّ أو تصل إلى هذه الدرجة من الوحشية لو أنّ هناك أناساً في العالم من أصحاب المواقف الذين لا يرضون لموقفهم ثمناً ولا يقبلون عليه مهادنة أو بديلاً يتناقض مع ما تمليه عليه ضمائرهم ومع ما آمنوا به وتلقّنوه ولقّنوه لأولادهم وطلابهم ومعارفهم. من المستحسن أن نرى المهادنين والمتخاذلين عن اتخاذ موقف مشرّف يصلون إلى نهاية دربهم المحتوم، علّ الآخرين يتّخذون العبرة ويؤمنون إيماناً لا يساوره الشكّ أنّ الحياة موقف وأنّ الكرامة موقف وأنّ الوطنية موقف وأنّ الإنسان موقف، فإذا زاغ الموقف فقد الإنسان جزءاً أصيلاً من إنسانيته ومصداقيته ودوره في الحياة وفي أيّ مجال كان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى