مقالات

نهجان ونتيجتان

نعيش اليوم مرحلة يتشكّل فيها العالم من جديد، وتحاول الدول المدركة لأهمية هذه اللحظة التاريخية أن تغيّر من قواعد اللعبة لصالحها وتحجز لنفسها مكانًا أفضل من المكان الذي كانت تحتلّه حتى الآن، وتتلافى فيها الثغرات والهنات التي سجلتها في الماضي في تعاملها مع الدول. ويعني هذا أنّ الدول اليوم تعيد  ساباتها في علاقاتها الدولية، وتتخذ الخطوات المناسبة لمستقبل أبنائها وترسي

أسس عالم أفضل لهم ينعمون به عقودًا قادمة. وفي غمرة مراقبة ما يحدث في عالمنا اليوم من هذا المنظور نلاحظ دون أدنى شك أنّ روسيا والصين ودول البريكس ودول منظمة شنغهاي تضع أسس عالم جديد وتعيد التذكير مرة تلو أخرى بالأسباب التي قوّضت أسس السلام والعيش المشترك في العالم الذي نودعه، وبالخطوات الأمريكية التي هي سبب التوتر والحروب على هذا الكوكب. ولكنّ روسيا والصين ليستا الوحيدتين العاملتين على إيجاد مكانة جديدة متينة في هذا العالم؛ فالهند والباكستان وجنوب إفريقيا وإيران والبرازيل ودول في إفريقيا وأميركا الجنوبية تعمل حثيثًا لتحسين مستوى حضورها في عالم المستقبل ولضمان مكانة أفضل من التي تحتلها في عالم اليوم.

في هذا الإطار الذهني حاولت أن أراقب وعن كثب ماذا تفعل أمتان لصيقتان بنا وأن أتابع أسلوب عملهما بالمجمل على مدى بضعة أسابيع ماضية، واليوم أحبّ أن أشاطركم استنتاجاتي في هذه الفسحة هنا. لقد تابعت عن كثب وعلى مدى الأشهر الماضية المواقف الأمريكية والأوربية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخاصة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي ومواقف الولايات المتحدة والدول  الأوربية أيضًا من الأمّة العربيّة خاصة بعد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبار الجولان أرضًا إسرائيلية والتحضير الحثيث لصفقة القرن. ومن  الواضح للمتابعين أنّ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي تزامن تقريبًا مع الإساءات التاريخية التي وجهها للقضية الفلسطينية والحقوق العربيّة )القدس والجولان والضفة الغربية وحقّ الفلسطينيين المقدس في أرضهم وديارهم(، فكيف كانت ردود فعل الإيرانيين على مواقف الطرفين وردود الفعل عليها من قبل الجاني )الولايات المتحدة والكيان الصهيوني( إلى يومنا هذا؟

بعد أن أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني قادت الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبنجاح حملة تستهدف إبراز الوجه اللاقانوني واللامسبوق لتصرف رئيس الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى استمرت في تشجيع الأوربيين ليثبتوا تعاملهم المختلف مع هذا الاتفاق وليعبّروا عمليًّا عن استمرارهم في تنفيذه. كما قامت الدبلوماسية الإيرانية بحملة نشطة وناجحة إلى روسيا والصين والدول الصديقة لشرح تفاصيل الموضوع وحيثياته وضمان موقف صلب من قبل هذه الدول لصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والنتيجة كانت أنّ ترامب تذاكى واعتبر نفسه يقدّم خرقًا في السياسة حين خاطب الإيرانيين بلغة مهينة طالبًا منهم الاتصال به كي ينقذ اقتصادهم ويمدّ يد العون لهم. ولكنّ الإيرانيين علّموه درسًا غير مسبوق بتجاهلهم طلبًا كهذا وثباتهم على مواقفهم من الاتفاق مع كلّ الإعلام الذي قام به المسؤولون الإيرانيون لصالح قضيتهم. وأثار هذا الموضوع إرباكًا داخل الإدارة الأمريكية حيث اتهمّ البعض رئيسهم بالتسبّب بإهانة الولايات المتحدة التي تنتظر هاتفًا من دولة لا تقبل الاتصال بها. ولم يجدوا حلًّ سوى أن يمعنوا في التنازل فيرسلوا رئيس وزراء اليابان برسالة إلى سماحة المرشد خامنئي والذي رفض بكبرياء أن يستلم الرسالة أو يردّ عليها طبعًا، وبدلً من ذلك فإنّ الرئيس الأمريكي ترامب هو الذي اتصل برئيس وزراء اليابان ليسأله عن تفاصيل زيارته. في الوقت ذاته كان الرئيس حسن روحاني يلتقي في قمة شنغهاي الرئيس الصيني شي جينبنغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلًّ على حدة، حيث أكّد له كلّ منهما استمرار الصين وروسيا في العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنّ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق هو الذي يزعزع أسس الاستقرار في المنطقة والعالم.

وطبعًا إن موقف إيران مفهوم ومبرّر لكلّ العاملين في السياسة والعلاقات الدولية، فإذا كان هذا الرئيس الأمريكي ينسحب من اتفاق استغرق سنين من الوقت والجهد للتوصل إليه، فما الذي يضمن عدم انسحاب رئيس قادم من أيّ اتفاق يمكن التفاوض بشأنه والتوصل إليه اليوم؟ أي كيف يمكن الوثوق بدولة تنسحب من توقيع رئيسها؟ وهكذا ساعد الصبر والمعالجة الإيرانية الدقيقة على إقناع العالم أنّ المشكلة تكمن في عدم احترام الولايات المتحدة لتوقيعها وللاتفاقات التي تمّ التوصل إليها.

في المقابل انسحبت الولايات المتحدة من تصويت لها في مجلس الأمن نفسه على قرارات تتعلق بالقدس والجولان والصراع العربيّ الإسرائيلي، فماذا فعل بعض العرب؟. استمروا في دفع مئات المليارات إلى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني آملين أن تنظر إليهم الولايات المتحدة وشركاؤها بعين العطف وأن تعتبرهم أصدقاء موثوقين وأن تبقيهم في خانة الأصدقاء الذين تتبادل معهم الزيارات لنهب ثرواتهم. وليس سرًّا أنّ بعض دول الخليج تدفع الأموال لبعض الفلسطينيين بناء على طلب سلطات الاحتلال الإسرائيلي؛ أي إنّ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة يديرون الملف برّمته وإنّ بعض العرب الذين يدّعون القرب من الولايات المتحدة والصداقة معها ينفّذون الأوامر المعطاة لهم، سواء في اليمن أو في سورية أو في العراق أو في ليبيا أو في فلسطين أو تجاه أيّ بلد آخر مثل إيران ولا كلمة لهم في شؤونهم أو في أيّ شأن يتعلق بمستقبل بلدانهم ومنطقتهم. وما زيارة الوفد الإسرائيلي مؤخرًا إلى تونس وردود الأفعال الباهتة التي صدرت بشأن هذه الاستهانة بدماء الشهداء الفلسطينيين، سواء على الأرض التونسية أو على أرض فلسطين إلا نتيجة متوقعة لانكسار العمل العربيّ وغياب التعامل مع الخصوم والأعداء على أساس المساواة في الكرامة الإنسانية والانتقام لكلّ استباحة أو استهانة تصدر بحقّ أي عربيّ من أيّ بلد كان وعلى أيّ أرض نشأ. النهج الإيراني الذي تحدثنا عنه نهج يؤمن أن لا مساومة على الكرامة وأنّ من لا يحترم بلده وحقوق بلده ويدافع عنها بكلّ ما أوتي من قوة لن يحترمه أحد. أمّا نهج بعض العرب المطبّعين والمهرولين وراء القوة الصهيونية فهو نهج استرضاء الأعداء ومعاداة الأشقاء وتقديم التنازل إثر التنازل للأعداء علّهم يتفضلون عليهم ببعض الاحترام والصداقة. وقد أثبت نهج الاسترضاء هذا أنّه يقود صاحبه من تنازل إلى آخر وحتى يصل إلى قاع سحيق لا مخرج منه، ولم يثبت يومًا أنّه مؤهل لاستعادة حقوق أو الحفاظ على كرامة. ونتيجة مراجعة هذين النهجين نرى دون شكّ أنّ المتمسك بحقوقه كاملة ينال احترام الناس وبينهم أعداؤه الذين يسعون للتقرّب منه والعمل معه رغم كلّ الصعوبات. أمّا المتخلّي عن حقوقه وكرامته فيفتح الأبواب لدفع المزيد من ثرواته جزية للأعداء، أو يرى قطعان المستوطنين يمجدّون جرائم جيش احتلال استيطاني بغيض على أرض تونس الأبيّة ويزورون بيت الشهيد «أبو جهاد » إمعانًا منهم في التأكيد على جرائمهم وأنّ القاتل لا يختلف عن القادمين للتمجيد بجريمته. نتائج النهجين واضحة للعيان وقد أثبت التاريخ مرة تلو أخرى أنّ الحقوق لا تستعاد باسترضاء الأعداء ولا تسقط بالتقادم، وأنّ «من يهن يسهل الهوان عليه »، فهل من يعتبر ويتوقف هنا قبل أن يتشكّل العالم الجديد على أنقاض من لم يستفد من التاريخ ودروسه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى