أدوات جديدة للقراءة
لا يجوزُ أن نسمع الأخبار بالطريقة التي كنّا نسمعها قبل انتخاب دونالد ترمب، ولا يجوز أن نفهمها بالطريقة القديمة، أو نحللها كما اعتدنا أن نحللها، أو نتوصل إلى استنتاجات سهلة وبسيطة. بل يجب أن نكون واعين إلى الزلزال الذي أصاب إعلام الشركات، وأن تكون مناسبة انتخاب ترمب حاضرة أمام ناظرينا لدى سماع أو مشاهدة أو قراءة أي خبر. إذ من الواضح اليوم على سبيل المثال، لا الحصر، أن وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون يعيش في الزمن الماضي وأنه غير راغب، أو غير قادر، أن يتأقلم مع معطيات العصر الجديدة، أو أن يعترف أنه لم يعد وزير خارجية بريطانيا العظمى، ولم يعد وزير خارجية أوروبي قادر على إملاء شروطه على الآخرين. حتى وإن تمكن من فرض عقوبات ظالمة ومشينة بحق وزراء سوريين كل ما يقومون به هو خدمة المواطن السوري في قطاعات مختلفة، فإن لجوءه إلى مثل هذه المواضيع دليل على إخفاقه في المواضيع التي تعني بلده في العلاقات الأوروبية الأطلسية مثلاً، وفي المسائل الشائكة التي يواجهها لاستشراف مصير بلده، ومصائر بلدان أوروبا في المستقبل القريب. حين لا يجد وزير خارجية بريطانيا شيئاً أفضل يفعله من أن يلحق عقوبات أوروبية بوزراء قائمين على أعمالهم في بلد عضو في الأمم المتحدة، فهذا يعني أنه هو يعاني من أزمة، وليس الوزراء الذين يعتقد أنه عاقبهم، والذين رغم الإرهاب، ورغم تكاتف قوى تدعم هذا الإرهاب، فهم يعملون ليل نهار من أجل خدمة بلدهم ومواطنيه.
إن مثل هذا الإجراء يثير الاشمئزاز وخاصة بعد أن تبيّن للعالم برمته أن الضمير العالمي قد أخذ وقفة جريئة ضد الإرهاب، ومموليه، وداعميه، وضد الوهابية التكفيرية، وكلّ من يساندها رغم عدم تطبيق هذه البلدان لقرارات الأمم المتحدة التي تنصّ على معاقبة الدول والأطراف التي تموّل وتسلّح الإرهاب. أن الضمير العالمي لا ينتظر تنفيذ القرارات التي تغفو منذ عقود وسنوات في أدراج الأمم المتحدة، والتي عادة لا يتم تنفيذها إلا إذا رغبت القوى الاستعمارية بذلك. أي إن الضمير العالمي قد تجاوز نفاق السياسات وفشل القرارات، وأمسك بناصية الأمور ليدير دفة السياسة والإعلام بما يتناسب مع شعور وقرار الأغلبية في هذا العالم، والتي سئمت الكذب والنفاق والتزوير. إن من لا يقدّر أهمية ما حدث وأبعاد ما حدث والارتدادات الحتمية لما حدث على مستوى العالم سيبقى يدور في فلك الماضي كما يدور بوريس جونسون وزميله الفرنسي اللذين يعتقدان أنهما يحققان إنجازاً، في حين تتجاوزهما الأحداث والحقائق والناس أجمعين.
ومثل هذا القول ينطبق على الناطق باسم الخارجية الأميركية جون كيربي، الذي اعتاد هو وزملاؤه على إلقاء التهم جزافاً، معتقداً أن منصّة وزارة الخارجية الأميركية تعفيه من كل شروط المصداقية، وحتى من شروط الانسجام مع الحسّ السليم والمنطق البسيط والواضح. فقد عمدت هذه الإدارة وإدارات سابقة على الحديث عن «المتهم» وكأنه «مدان»، وأصبحت كلمة «suspect» أي متهم تودي بصاحبها إلى غوانتنامو من دون محاكمة أو تفكير أو تحرّ وتمحيص للحقائق. أما إذا صدر هذا الاتهام في جريدة مهمة أو في منشورات دار أبحاث مهمة، يتم تداوله على أنه الحقيقة بعينها من دون أن يتجرأ أحد على المطالبة بالأدلة والبراهين. أيضاً هذا الأسلوب بدأ بالأفول وبدأت تباشير التحدّي تظهر في عقر دارهم ولن يتمكن أحد من إيقاف هذا المسار في المستقبل، فقد نطق جون كيربي على عادته باتهامات لروسيا وسورية في حلب، وحين واجهته مراسلة التلفزيون الروسي بكلّ هدوء ومهنية وطلبت منه أن يثبت صحة المعلومات التي يدلي بها بالصورة والبرهان، قال إنه لا يملك ذلك. ولكنه لم يتوقع أنها هي تملك الصور والأدلة التي تدحض تماماً ما يقول. وأخرجت أدلتها وعرضتها عليه وعلى الحضور فانتصر لها بعضهم وقال له معها الحق. لن يتمكن جون كيربي وأمثاله من عرض افتراضاتهم المغرضة والمقصودة على المراسلين مرة أخرى من دون أن يكون في جعبته ما يبرهن على صحة ما يقول.
وهنا أنتقل إلى الدور الذي يجب أن يلعبه أمثال مراسلة التلفزيون الروسي أي أن يتزودوا بالأدلة والبراهين القاطعة، وأن يفضحوا الكذب الذي اعتاد الناطقون الرسميون وإعلاميو الشركات ومراكز الأبحاث على ترويجه وكأنه الحقيقة الوحيدة المطلقة. مع الهزيمة التي منيت بها الشركات الإعلامية في الولايات المتحدة، ومع ارتفاع الأصوات الحرّة في الغرب والشرق الساعية وراء الحقيقة يجب أن يشعر الجميع بمسؤولياتهم بألا يسمحوا للأكاذيب أن تمرّ بعد اليوم من دون أن يفندوها ويدحضوها ويضعوا بديلاً منها الرواية الصحيحة والصادقة. وهنا يأتي دور العروبيين في وطننا العربي ودور روسيا والصين والهند وجنوب إفريقية ودول أميركا اللاتينية، أن تعطي وسائل الإعلام الأهمية التي تستحق، وأن تعتبر تمويل الإعلام بأهمية تمويل الجيوش الوطنية، فقد تصدّع جدار الوهم الإعلامي ومن واجبنا جميعاً أن نعمل على انهياره ودفنه مرةً وإلى الأبد، وأن ننطلق بإعلام يسلّط الأضواء على الحقائق وينقلها بين البلدان وعبر المحيطات كي تكون أساساً لبناء سياسات وعلاقات سليمة بين الدول، علّ هذا التصدّع في الجدار الإعلامي الواهم هو أهم حدث شهدناه في القرن الحادي والعشرين، وسيكون عاملاً أساسياً في تحديد توجهات هذا القرن وسياساته وأحداثه المقبلة.