مقالات

أهداف داعش الحقيقية

بينما تتجه الأنظار والجيوش والقرارات الدولية المخادعة إلى المواقع التي هبطت فيها داعش من الموصل إلى الرقة إلى منابع النفط على الساحل الشمالي الليبي، تنفّذ داعش كأداة اخترعتها وصنعتها المخابرات الدولية المعادية للعرب بتمويل من النفط العربي، مخططات أخطر بكثير من احتلال الأرض ورفع الرايات السود ونشر الأفلام عن إحراق الطيار الأردني أو ذبح الأقباط المصريين، والذي ثبت أنه يخضع لعملية إنتاج هوليودية في قطر من أجل تحقيق الآثار النفسية المرتجاة من هذه الجرائم التي تتجاوز إلى حدّ بعيد الضحية أو الزمان والمكان المعنيين.

وإذا تمعنّا لبرهة في حال المجتمعات التي تحارب داعش ودرسنا حال هذه المجتمعات بعيداً عن الموصل والرقة وسيرت ودرنة، أي بعيداً عن خط النار مع داعش، وتفكّرنا في التغييرات التي تطرأ على هذه المجتمعات رغم أنها عملياً بعيدة نسبياً عن خط المواجهة، نلاحظ أن خلخلة حقيقية تطرأ على هذه المجتمعات في كلّ مناحي الحياة وأن التغييرات آخذة في التصاعد ولا أحد يعرف حقيقة مصدرها أو آلية تصاعدها. لقد كتبت في الأسبوع الماضي عن استهداف الجيوش العراقية والسورية والمصرية واستنزاف طاقاتها وأضفت: «وبين هنا وهناك خطوات مدروسة لتدمير التعليم والهوية والعادات والأخلاق في كل هذه البلدان». وفي نظرة متأنية نلاحظ أن المدارس كانت هدفاً أساسياً في هذه الحرب فقد تمّ تدمير أكثر من 5000 مدرسة كلياً أو جزئياً في سورية وحدها مما أخرج آلاف الطلاب من المدارس بالإضافة إلى التلاميذ الذين نزحوا داخل البلاد أو لجؤوا إلى خارج البلاد. أضف إلى ذلك أن التلاميذ في مخيمات اللجوء وفي المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون يتلقون تعليماً يحقق لهم النشأة التي يبتغيها التكفيريون، فأي جيل سنواجه في العام 2025 وأي مبادئ وأخلاق وقيم سينشأ عليها فريق من هذا الجيل على الأقل؟ وما الخطوات والتدابير التي يتم اتخاذها كي لا يصبح الشرخ عميقاً غير قابل للعلاج والرأب؟

في زحمة قتال داعش تنحرف بعض المنشورات عن القيم الاجتماعية السليمة المتوارثة كما تنحرف بعض الإنتاجات الدرامية عن أخلاق المجتمع المعروفة، وبحجة مراعاة السوق الخليجية والحرص على الإنتاج وفق ذوق المستهلكين تشهد الأعمال الثقافية العربية انزياحاً خطيراً يجعل الخلق المنبوذ عادياً ومألوفاً، ويؤسس مع مرور الوقت لهوية مجتمعية لا أخلاقية يصعب إعادتها إلى ما يتواءم مع ديننا وأخلاقنا وحضارتنا التي نفتخر بها. والمراقب الحساس لحركة المجتمع يلاحظ أن الأسوأ يطفو على السطح ليزيح الأفضل ويسبب تهميشاً لمن كان يُعوّل عليهم حتى وقت قريب أن يقودوا مختلف الاختصاصات نحو الأفضل والأسمى. وحين تحاول أن تشير إلى خطورة مثل هذه الظواهر ترتفع الأصوات المتنفعة، أو الأيادي المشاركة في هذا الانزياح، تحت غطاءات مختلفة، لتتهمك أنك لا تقدّر أن هناك أزمة وأن هناك اليوم ما هو أكثر إلحاحاً من ترف معالجة قضية تعليمية هنا، أو إنتاج مسرحي هناك، وإذا أضفنا إلى هذا وذاك تدمير الأوابد الأثرية في كل هذه البلدان وسرقة القطع الرقمية الشاهدة على حضارة هذه الأمة نستطيع أن نتصور مدى الخواء الذي سيواجهه جيل المستقبل في إثبات وجوده وحقه على هذه الأرض.

ومن ناحية أخرى إذا ما دققنا في أصحاب الحرف الماهرة الذين هجروا البلاد نرى أنه، وفي غفلة من الزمن، وبينما نحن نراقب الموصل والرقة، خسرنا من كان إنتاجه يشكل هوية هذه الأمة من مهن تقليدية توارثناها عبر آلاف السنين، من الحفر على الخشب إلى صناعة الموزاييك إلى صناعة البروكار والحرير إلى فنون الطبخ والبناء والموسيقا والرقص والأزياء الشعبية، لتصبح هذه البلدان أرضاً يباباً ولينشأ جيل لا يعرف أيضاً أن هذا المنتج الذي يباع في بلدان الغرب هو منتجه أصلاً ولكنه سرق منه وانتحل اسماً وهوية بعيدين عن العرب والعروبة. والأمر ذاته ينسحب على الزراعة والصناعة وكلّ مناحي الحياة. فهل يمكن أن نعيد التوازن إلى مواجهة داعش، من خلال الفصل بين المواجهة العسكرية والأمنية لها من جهة، والتركيز على تمتين بنية المجتمع والتعليم وإعادة الاعتبار لأهمية تحصين الحالة الثقافية والأخلاقية والإنتاجية والتعليمية كأدوات أساسية لإلحاق الهزيمة بأهداف الذين صنعوا داعش وما يزالون يدربون إرهابييها علناً وخفية ويرسلونهم لسورية والعراق وليبيا والبلدان العربية الأخرى على التتابع؟.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى