الإعلام كأداة حرب
أتى تسريب أوراق بنما في الفترة الأخيرة ليكون شاهداً على أن الإعلام أصبح أداة حقيقية للحروب المعقّدة والمتداخلة التي يشهدها العالم اليوم. إذ رغم تعدد الأسماء المذكورة في هذه الأوراق فقد بدا واضحاً للمختصين منذ اليوم الثاني للتسريب أن المستهدف الأساس من هذه الأوراق هو الرئيس فلاديمير بوتين. وكان تركيز معظم الإعلام الغربيّ على الرئيس بوتين دليلاً واضحاً وقاطعاً على هذا الاستنتاج. ثمّ وبعدّ أيام صرّحت ويكيليكس أن تسريب أوراق بنما قد تمّ بشكل متعمد من الولايات المتحدة وأنّ هدفه الأساس هو إلحاق الأذى بمصداقية الرئيس بوتين. والسؤال هو كيف يمكن فهم هذا الاستهداف في الوقت الذي تعقد اجتماعات أميركية روسية ويتم التواصل أحياناً بشكل شبه يومي بين وزيري خارجية البلدين وتعقد الآمال في حل أزمات إقليمية ودولية على هذا التقارب والتنسيق بين الدولتين القطبين؟
الجواب على هذا السؤال يؤشر باتجاه عالم مختلف اليوم تماماً عن العوالم التي اعتاد الناس العيش فيها ولابُدّ من إدراك هذه الحقيقة من أجل تغيير المعايير التي كانت تستخدم في الماضي لفهم العلاقات والتقاطعات والتجاذبات في العالم الذي نعيش فيه. إذ لم يعد هناك حقيقة واحدة لأي بلد أو موضوع أو مسألة صغُرت أم كبرت بل لكلّ موضوع أوجه متعددة حسب علاقته بالموضوعات الأخرى وحتى حسب توقيت هذه العلاقات. وما التطوّر الذي شهدناه في السينما بموضوع ثري دي إلا وجه واحد من أوجه هذه التطور ونموذج عن الحركات والألوان والعلاقات بين الأشياء. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد زار الرئيس الأميركي كوبا واعتبرت هذه الزيارة خرقاً تاريخياً وتحوّلاً نوعياً للموقف الأميركي من كوبا بعد عقود من الحصار عليها، ولكن العقوبات الأميركية مازالت سارية على كوبا تماماً كما كانت قبل هذه الزيارة، كما أن الكوبيين متوجسون من أن هدف هذا الانفتاح قد يكون تغيير هوية كوبا إلى ما يرضي ويخدم الولايات المتحدة في الوصول إلى النتيجة التي أخفق حصار عقود في التوصل إليها. والأكثر من ذلك أن كوبا التي عانت من الحصار لعقود هي بلد لا يعاني من الدين وبلد طوّر النظام الصحي لدرجة مذهلة وتمّكن تقريباً من محوّ الأمية من البلاد، كما أن نسبة النساء في مواقع القرار تفوق أحياناً 50% أي إن حديث الإعلام عن العقوبات والحصار بحق الدول -كوبا وإيران كمثالين- مردودٌ عليه بأن هذا الحصار برهن على أنه نعمة لسكان البلدين وليس نقمة عليهما، وبالمقابل فإن دولاً كثيرة في أوروبا الشرقية استنتجت أن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي قضت على صناعات محليّة وأسلوب عيش وأمان اجتماعي ومادي كانت تعيشه هذه الدول من دون أن تعي قيمته. فالسباق من أجل تحقيق أسلوب العيش الأميركي والغربي في دول الشرق ناجم عن الاستخدام الذكي والهادف للإعلام الغربي من أجل الترويج للقيم الغربية. وقد كانت نتيجة عقود من هذا الضخّ الإعلامي أن الأغلبية في دول الشرق والجنوب تعتبر أسلوب العيش في الغرب نموذجاً يحتذى به على حين هناك أساليب عيش تناسب الشعوب في بلدان مختلفة وتغيير هذه الأساليب يفقد هذه الشعوب أصالتها وهويتها واستقرارها النفسي والاجتماعي.
ونحن نحاول إطفاء نيران الحروب من بلدٍ إلى آخر نرى أن الغرب اليوم قد غيّر من أدواته وأساليبه، لكنّ هذا لا يعني أنه غيّر أهدافه في فرض الهيمنة على شعوب العالم وامتصاص مواردها لمصلحة شركاته ومستقبل أبنائه، ذلك لأن التدخل العسكري في البلدان قد أصبح مكلفاً ومفضوحاً وفاضحاً أيضاً ولذلك يتم اليوم الاتكاء على الإعلام كأداةٍ من أدوات الحرب الجديدة من أجل تقويض صدقية ومكانة أي دولة تتحدى الأنموذج الغربي أو ترفض السير في مساره. ومنذ بداية ماسميّ «الربيع العربي» وخاصةّ بعد مؤازرة الطيران الروسي والصديق الإيراني للحرب التي يخوضها الجيش والشعب السوري ضدّ الإرهاب فقد بدأت الحقائق تنكشف شيئاً فشيئاً حتى للرأي العام الغربي وإن كان هذا الانكشاف بطيئاً ويمكن تسريعه لو وجدت الإرادة والنيّة للتركيز على هذا الملف. لذلك فإن الغرب يلجأ إلى أساليب غير تقليدية لتقويض مصداقية الأطراف التي تكسر الصورة النمطية في الإعلام والتي أوحت دائماً بالتفوق الغربّي على كلّ ماعداه. فيما سميّ «الربيع العربي» تمّ استخدام أدوات التضليل من «الجزيرة» إلى «العربية» وأخواتهما لتضليل الرأي العام العربي والعالمي حول مجريات الأمور وقد زهقت مئات آلاف الأرواح نتيجة هذا التضليل، واليوم ووسط تشابكات وتعقيدات العلاقات بين الدول والمحاور يتم استخدام أساليب غير تقليدية لا تنسجم مع مظاهر مجريات الأمور. في العلاقات بين الدول والأطراف علينا أن نأخذ بالاعتبار أن الغرب الذي يعاني من مشاكل اقتصادية ومن أزمة مصداقية في أعين الشعوب يحاول أن يقوّض مصداقية الآخرين ويقلب الحقائق المثبتة ميدانياً لكي يخفف على الأقل من الانحدار الذي يعاني منه. ولكنه لن يتمكن من إيقاف عجلة التاريخ. أمران ضروريان يجب أن يتذكرهما كل من يريد عالماً أفضل لأبنائه، أولهما هو أن الإعلام لم يعد يهدف إلى إيصال الحقائق، بل أصبح في كثير من الأحيان إحدى أدوات المعارك المشتعلة، والأمر الثاني هو أن الغرب وأعوانه يمتلكون معظم وسائل الإعلام العالمية ولذلك هم مصدر الخبر الأساسي عن أنفسهم وعن أعدائهم وهذا لا يجوز أن يستمر لمن يعتقد أنه يخوض معركة مصيرية من أجل الحفاظ على السيادة الحقيقية والكرامة والاستقلال والهوية الذاتية والحضارية المختلفة للشعوب.