الاتجار بالإرهاب
في أوائل هذا القرن كان الهاجس الأساسي للدول الغربية هو تطبيق مبدأ التجارة الحرّة على كل الأقاليم والبلدان بما يحقق مصالحها الاقتصادية الجمّة على حساب مصالح الدول النامية والفقيرة. وكان الخطاب الإعلامي في واد، والإجراءات الاقتصادية في واد آخر. فمن الناحية الإعلامية، أخذ الغرب ومراكز أبحاثه يركّزون على أن العالم أصبح قرية صغيرة وأنه لا يمكن لأي دولة أن تغلق حدودها في وجه التجارة الحرّة، وأن على دول العالم أن تتعلم من تجربة الاتحاد الأوروبي وعلاقاته بالعالم الجديد عبر الأطلسي وأن تتوصل إلى صيغ وآليات تضمن التنقل السلس للبضائع والأشخاص. ولكن وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 أصدرت الدول الغربية ذاتها قوانين وإجراءات هي في معظمها ضد المسلمين وأصحاب السحنة السمراء؛ إذ إن مراكز أبحاثهم وإعلامهم اعتبرت المسلمين مسؤولين عن هجمات أيلول. وبدأت القوانين والإجراءات العنصرية بالظهور في تناقض مطلق مع نظرية الحدود المفتوحة ونظرية العالم الصغير وعدم جدوى وجود الحدود في زمن أصبحت فيه وسائل الاتصال عابرة للقارات.
في هذا السياق جرى غزو أفغانستان واحتلال العراق في جهد تمّ الترويج له على أنه يندرج في إطار مكافحة الإرهاب، مع أن هدفه الأساس هو تدمير دولة عربية وتقسيمها وهدر مقدراتها العلمية والفكرية والبشرية والاقتصادية. ولم يُبذل أي جهد على الإطلاق لدراسة الإرهاب كفكر وعقيدة، ومحاولة محاربة هذا الفكر وفق نظرية الجهد الدولي والعالم الواحد والحدود المفتوحة بين الدول، بل إن جهود مكافحة الإرهاب، أو الادعاء بها، قد كرّست النظرة العنصرية ضد العرب والمسلمين وزادتْ من عداء الغرب لأمتنا وصبّتْ في خدمة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وكل إجراءاته الاستعمارية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني.
وتتالت الأحداث بعد ذلك وفي مجرى كل حدث يوجّه الغرب التهمة للعرب والمسلمين في استهداف مزدوج لتاريخهم وحضارتهم، ومن أجل تشويه صورة الإسلام. وآخر هذه الأحداث هو ما سطروه على أنه «ربيع عربي» في محاولة لذرّ الرماد في العيون وتعمية بصيرة العرب عمّا يُخطّط ويُدبّر لبلدانهم من أحداث تهدف إلى استنزاف هذه البلدان وتدمير هويتها الحضارية وتفتيتها إلى كيانات طائفية وعرقية لا يقيم أحد لها وزناً في الميزان الدولي. وعلّ تطوّر الأحداث في سورية قد برهن أمراً في غاية الأهمية لابدّ من التوقف عنده ودراسته وتحليله والبناء على نتائجه. فقد أدلى مواطنون سوريون قادمون إلى دمشق من الرقة وتدمر ودير الزور وغيرها أن قادة المجموعات المسلحة في داعش والنصرة يلبسون قناعاً على وجوههم ولا يمكن حتى لمن يقاتلون معهم أن يتعرفوا هذه الوجوه. هذه الروايات تكررت مراراً وتكراراً على مدى العامين الماضيين منذ ظهور داعش في العراق وسورية.
واليوم تبرهن الضربات الروسية للإرهاب في سورية أن معظم قادة هذه التنظيمات الذين يقتلون هم من الأجانب. والبارحة صدر الخبر أن طيارة بريطانية تعمل مع التحالف الأميركي قد قتلت جون الإرهابي، وهو بريطاني، في شرق سورية، كان يحمل سكيناً ويلوّح به ويقتل الأجانب. والحقيقة الأكيدة هي أن الغرب قد احتضن التنظيمات الإرهابية واستخدمها حيث يشاء، معتقداً أنها أداة طيّعة في يده يضرب بها الأرض والبلاد التي يريد ثم يعيدها إلى القمقم مرة أخرى. ولكنّ ما جرى هو أن هذا الإرهاب قد أصبح فرانكشتاين؛ إذ تمرّد على خالقه وصانعه وبدأ يضرب في كل مكان وفق أجندته هو، وليس فقط وفق أجندة صانعيه ومحتضنيه. والطريقة الوحيدة اليوم لتخليص البشرية من هذا الوباء العالمي هي أن يتحلّى الغرب بالصدق وأن يقدّم القوائم التي لديه لتحالف دولي ضد الإرهاب يشمل روسيا والصين وإيران وسورية وكلّ الدول التي تحارب الإرهاب فعلاً، وأن تتخذ إجراءات أممية خالية من العنصرية واضطهاد المسلمين واتهامهم ظلماً، وتعتبر العالم فعلاً عالماً واحداً، في وقفة جدّية وجريئة ضد هذا الخطر العالمي، لا تفرّق بين الإرهاب في الرقة وباريس وبيروت ونيويورك. وإلا فإن المدنيين في أي مكان في العالم سيكونون عرضة للقتل نتيجة نفاق في سياسات غربية لم تكن أبداً جادةً في اجتثاث الإرهاب من جذوره وتخليص البشرية من آثامة وأخطاره. المطلوب فعلاً هو أن يتوقف الغرب عن الاتجار بالإرهاب وأن يبدأ بمحاربته فعلاً لا قولاً.