قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بعد حديثة مع وزيرة الخارجية البريطانية: “كان حوارنا كحوار الأبكم والأصم”. وجميعنا يلاحظ في الآونة الأخيرة أنواعاً كثيرة من هذه الحوارات، سواء تعلق الأمر بأوكرانيا أم بالقرم أم بأفغانستان أم بتايوان أم بليبيا أم بالعراق أم حتى بشؤون داخلية في بلدان بعينها، نلاحظ انقسامات حادة لا يسمع أي فريق الفريق الآخر، بحيث وصل العالم فعلاً وفي كثير من قضاياه الدولية والمحلية إلى مرحلة حوار الطرشان، والسؤال هو: لماذا؟ وأين كان العالم قبل هذه المرحلة؟ وأين هي الوجهة المحتملة له بعد هذه المرحلة؟
لقد خضع العالم، وعلى مدى القرون الماضية، لموجات استعمارية رومانية وبيزنطية وعثمانية وغربية، وعكفت هذه القوى على استغلال موارد الشعوب والدول واستثمارها لصالح بلدانها وسكانها (القوى)؛ ومن هنا شهدت الدول الغربية مرحلة التوسّع والإعمار والازدهار، لأنها مردت على سلب الدول الأفريقية والآسيوية ودول أميركا اللاتينية خيراتها الطبيعية، لتبني بها “حضارتها” وصناعتها وأمجادها، ولتقنع شعوبها بأنها هي الأذكى وبأنها قادرة على التطور والإنتاج، وبأن ما عداها من الشعوب أقل منها قدرة وكفاءة. وهكذا فقد سلبوا أفريقيا، وما زالوا، على سبيل المثال، معظم ما تمتلكه من المعادن والثروات والذهب والفضة، وصمّموا لها أنظمة سياسية تُبقي دولها رهائن بأيدي السياسات الغربية.
وهذا ينطبق أيضاً على دول آسيا ودول أميركا اللاتينية. ولكن مع استفاقة شعوب هذه القارات، وإدراكها لمقدراتها وأهمية هذه المقدرات، ومحاولاتها الإمساك بأقدارها، متّخذة من الصين والاتحاد السوفياتي السابق سنداً ودعماً وأنموذجاً، فقد عملت الدول الغربية على الالتفاف حول بعضها، وتسمية نفسها بالدول “الصناعية” أو “الدول المتقدمة” أو “الدول الحضارية” أو “دول المجتمع الدولي” أو الـ”جي7″، مع أن هذه الدول لا ينطبق عليها التعريف الذي أعطته لنفسها، وخاصة بوجود العملاق الصيني ووجود الهند وروسيا، سواء من حيث عدد السكان أم من حيث التطور الصناعي أو الحضاري أو التقدم العلمي.
لقد اعتادت الدول الاستعمارية القديمة والإمبريالية الجديدة أن تسبّب الحروب وتغتال قادة الاستقلال في أي بلد ترغب بسلبه موارده، وباستخدام أسلحتها وتشغيل مصانع السلاح لديها، لتغذية الفتن والحروب، سواء في البلد الواحد أم بين بلدان متعددة، وسخّرت من أجل هذا كله إعلاماً عالمياً وموّلته بشكل سخيّ من موارد هذه الدول ذاتها، كما موّلت العملاء من هذه الدول كي يقوموا بالأعمال القذرة لصالحها في بلدانهم، مقابل الفتات الذي ترميه لهم من خيرات بلدانهم، معتمدة في ذلك كله على خطط ومراكز أبحاث وأفكار شيطانية معدّة سلفاً لتغذية ازدهارها المجاني على حساب هذه البلدان والشعوب، مع حملات مستمرة لإقناع سكان هذه الدول بأنهم أقلّ ذكاءً وقدرة على مضاهاة العرق الأبيض، وبأنهم مهما حاولوا لن يتمكنوا من بلوغ المستوى الحضاري والإنتاج العلمي للدول السبع المتحضّرة!
أما وقد تغيّر العالم اليوم، وظهر قادة وطنيون مؤمنون بمقدّرات بلدانهم وبذكاء شعوبهم، فقد عملت الآلة الإعلامية التي تستخدم الفضاء الإلكتروني بنشاط على مهاجمة هؤلاء وتشويه سمعتهم، ويمكن ملاحظة دور شبكات العملاء على صفحات فيسبوك وهي تهاجم هذا أو ذاك، وتحرّض الرأي العام ضدّ المسؤولين في هذا البلد أو ذاك المستهدف من قبل أسيادهم. أما وقد أثبتت الصين إنتاجية عالية، لا في السلاح فقط، كما هي الحال في الولايات المتحدة، بل في أنواع المنتجات الاقتصادية كافة، فإنَّ الغرب يجد نفسه محاصراً ومهدّداً بفقدان الازدهار المجاني الذي درج على قطف ثماره من دون عناء بنهب ثروات الشعوب.
أما وقد تطور وعي الشعوب أيضاً لتدرك أن من يتحدث باسم هؤلاء المستعمرين ما هو إلا خائن وعميل لهم، ولا تقيم وزناً لأي رأي يمكن أن يصدر عنه لأنه يتحدث باسم أسياده أعداء الوطن، ولا قيمة له أو لهم لأن مصيرهم هو مزبلة التاريخ، فإن هذا الوعي أيضاً يحاصر من اعتادوا نهب الخيرات والثروات بأبسط السبل، واعتادوا تجنيد العملاء بدراهم معدودة من خيرات بلدانهم لتدميرها وتدمير شعوبها.
ولمن يريد أن يستشهد بأنهم ما زالوا أقوياء أقول: إننا ما زلنا في خضمّ المعركة، وإنها لم تنته بعد، وإن الأمور بخواتيمها؛ فإذا كانت منظمة العفو الدولية قد صنّفت الكيان الصهيوني هذا العام أنه نظام فصل عنصري، الأمر الذي لم يكن يحلم به أحد أن يحدث منذ عدة أعوام، فإن كل شيء ممكن، وإن كل ما هو مطلوب هو الصبر والثبات على المبادئ والقيم.
من هنا نفهم شراسة الأكاذيب التي يبثها الإعلام الغربي وتوابعه حول أوكرانيا، وهي أكاذيب مفضوحة ومخجلة؛ إذ إن كل ما تطلبه روسيا هو تطبيق اتفاق “مينسك”، وضمان عدم تمدّد الناتو إلى حدودها، ولكنّ المسؤولين الغربيين والإعلام الغربي لا يذكرون هاتين النقطتين أبداً، بل يروّجون أن روسيا تنوي غزو أوكرانيا، علماً بأن الأسلحة الوحيدة التي وصلت إلى أوكرانيا هي أسلحة أميركية وغربية بهدف توريط أوكرانيا وروسيا بحرب ضروس، مثل حرب العراق ضد إيران، من أجل إنهاك البلدين، غير مبالين بضحايا هذه الحرب، وإنما الهدف هو صناعة الحروب وبيع الأسلحة؛ فقد نشر ستيفن سيملر في الجاكوبيان مقالاً بعنوان أنه إذا تمّ تمرير القرار بخصوص أوكرانيا من الكونغرس فإننا سنُغرق أوكرانيا بالأسلحة الأميركية. وينصّ مشروع القرار على بيع مخزون الأسلحة إلى أوكرانيا، رغم تسميتها بـ”المساعدة”، إلا أن الكاتب يوضح أن المستفيدين الوحيدين من مقترح “المساعدة العسكرية” لأوكرانيا هم صُنّاع السلاح الأميركيون ووزارة الدفاع الأميركية، والاثنان يبدوان مصمّمين على تمرير مشروع هذا القرار، ذلك أن اقتصادهم قائم على بيع السلاح، بينما الاقتصاد الصيني قائم على الإنتاج الحقيقي، ولهذا هم يريدون الحروب لنهب الشعوب، بينما تسعى الصين إلى خلق المزيد من التنمية في دول العالم لخدمة اقتصادها واقتصادات العالم قاطبة.
قد نفهم بالمنطق أن الدول التي تعيش على تصنيع الأسلحة ونهب الثروات تحاول أن تحافظ على ازدهارها المجّاني، لأنها من دون هذا النهب ومن دون هذه الحروب ستشهد انهياراً حتمياً لاقتصادها، ولذلك تمّ غزو ليبيا، وقبلها العراق، من أجل نهب ثرواتهما. ولكن ما يستعصي على الفهم هو لماذا يتحمّس العملاء والخونة للدفاع عن أعداء الوطن والأمة، وبثّ المقولات التي سمعناها مراراً وتكراراً من عدوّ إسرائيلي شرس عُرف عنه أنه يفتك بعملائه بعد استخدامهم؟؟
وفي سوريا تنهب الاستخبارات العسكرية الأميركية النفط السوري من الجزيرة لتمويل عملائها في الميليشيات العميلة، ولتمويل انبعاث عصابات داعش من جديد، ولتمويل شبكات الصفحات الإلكترونية العميلة التي تستهدف سوريا وشعبها بحملات إعلامية موجّهة من أسيادهم. أم أنه هنا أيضاً كما قال لافروف “حوار الأبكم والأصم”؟
هل يعرف أحد من اغتال تشي غيفارا أو سيلفادور الليندي؟ ولكنّ العالم برمّته يحفظ ويردّد أسماء الشرفاء الذين دافعوا عن بلدانهم حتى وإن قضوا في سبيلها.