الحلقة المفقودة
ماذا تعلّمنا من هذه الحرب القاسية على سورية التي خاضها الشعب السوري وجيشه وحلفاؤه وأصدقاؤه، بصبر وثبات وإيمان، مقدّمين مئات الألوف من الشهداء والضحايا جرحى وأسرى ومهجّرين، وسببت دماراً هائلاً لما بنيناه طوال عقود؟ وماذا تعلّم العالم العربي من الحرب الغربية الإرهابية المماثلة على العراق وعلى ليبيا وعلى اليمن وعلى السودان؟ وماذا تعلّم العرب من معاناة الشعب الفلسطيني، وكيف يقارنون تجربته في النضال ضد حكم عنصري صهيوني استيطاني، بتجربة نضال شعب جنوب إفريقيا، وهل تمت الاستفادة من تجارب الآخرين؟ أم إن المعركة في الميدان شغلت الجميع عن استخلاص الدروس المستفادة؟ ولذلك قد تعيد الأحداث ذاتها بعد عام أو أعوام من دون أن تمنع العبر الحقيقية من عودتها.
هذه الأسئلة وغيرها كثير، ضرورية اليوم أن تُسأل وخاصة بعد أن صدقت كلّ توقعاتنا حول ماهية هذه الحرب على سورية، ومن الأطراف المموّلة والمساعدة والمسهّلة لها والتي كانت تتخذ من شعارات قنوات الإرهاب وإعلامه ومرتزقتهم عن الثورات والحريات والديمقراطية، غطاءً لدعم وممارسة إرهاب مجرم شنيع على شعبنا العربي، في حين هدفها الأساس هو تقويض أركان الدولة السورية والعراقية واليمنية والليبية، وهدم مقوّماتها.
وإذا لم يتم وضع هذه التساؤلات الجريئة والإجابة عنها، فسنبقى ندور في فلك من يبدّل مخططاته وأدواته، من دون أن يغيّر هدفه ونياته وعزيمته وتصميمه على استهدافنا طمعاً بثرواتنا وجغرافيتنا، وحقداً على هويتنا الحضارية المعرفية، وأملاً في تصفية قضية فلسطين وإنهاء الدور العربي في الإقليم ومكانة العرب في العالم مرة وإلى الأبد.
هل كان علينا أن ننتظر إلى اليوم حتى نعلم علم اليقين أن عشرات الآلاف من الإرهابيين الأجانب عبروا الحدود التركية والأردنية واللبنانية إلى سورية بتمويل وتسليح أجنبي سعودي إسرائيلي مشترك، وأنهم كانوا عصب الإجرام في سورية والعراق وليبيا واليمن؟ وهل كان علينا أن ننتظر إلى حين قرب اندحارهم حتى نعدّ الدراسات الدقيقة عن جنسياتهم والأطراف التي جنّدتهم وأمّنت لهم الرعاية والتمويل والوصول؟ هل كان يجب أن ننتظر تصرّف القوات الأميركية في مرقدة والرقة والتي تقوم بعملية استلام وتسليم بين إرهابيي داعش ومرتزقة «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، أم كان يجب أن نتوقف ملياً عند تجربة سنجار التي تمّ تسليمها لـ«البيشمركة» منذ عام 2013 واختفت داعش منها من دون قتال ودون أن تُطلق طلقة واحدة، بعد أن تمّ حلق اللحى وتغيير الملابس والشعارات؟ وهل يجب أن تبقى هذه الحقائق لدى تثبيتها مجال أحاديث وتقارير إعلامية أم أن تتحول إلى قضايا ترفع في المحاكم الداخلية أولاً ومن ثمّ الدولية على الدول والأطراف المنخرطة بهذا العمل الإجرامي الواسع المدى؟ السؤال هو كيف كان يمكن فعل هذا، وكيف يمكن فعل هذا في الأحداث المستقبلية وما ضروراته وفوائده؟!
أطرح هذه الأسئلة اليوم لأنني أرى تبديلاً في السيناريوهات التي تستهدفنا ومرحلة جديدة منها، دون أن نتوقع من المرحلة القادمة وضع حدّ نهائي لهذا الاستهداف أبداً، وخاصة أن النفاق الذي شكّل غشاوة على العيون في بداية الحرب على العراق وسورية واليمن وليبيا تتم ممارسته ذاته في موضوع استفتاء كردستان بحيث تدعي الدول التي تقف وراء مخططات تفتيت هذه الأمة بأنها ضد الاستفتاء، على حين هي في الواقع تعتبر تجزئة البلدان وتقسيمها استكمالاً للمخططات الإرهابية التي لم تنجح كما كانوا يخططون لها من خلال نشر الإرهاب وإقامة الدول التكفيرية، وتدمير الأوابد العربية وبنية التربية والتعليم في بلاد الشام واليمن والعراق وليبيا.
أهم الدروس التي يجب أن نكون تعلمناها من خلال هذه التجربة الصعبة هي أن للحرب علينا مساراتٍ متعددةً، ومن الحكمة إلا نغفل أياً من هذه المسارات حتى في أشدّ أيام المعارك العسكرية حلكة وقساوة، فإذا كان المقاتلون والجيش والحلفاء يقاتلون في بقع جغرافية مختلفة من البلاد، فلا بدّ من إنشاء فرق مدنية أخرى ذات اختصاصات تستثمر القتال الدائر في ساحة المعركة وتشكل الداعم الأساسي له.
لا بد من تشكيل فرق بحثية وإعلامية ونفسية وقانونية، لا تقلّ أهبة واستعداداً تكريساً للذات لخوض معركة إسناد للقوات العسكرية واستكمال أوجه المعركة سواء على الصعيد الداخلي أم الإقليمي أو الدولي، وفي هذا الإطار فإنه لا بدّ من تشكيل خلايا بحثية وتوثيقية منذ اليوم الأول تستمد مادتها من الميدان وتهتم بكلّ صغيرة وكبيرة من أجل أن تطلّع الأجيال القادمة على حقيقة تاريخها وتستنبط منه الدروس المستفادة.
يجب تشكيل خلية بحث إعلامية نفسية تدرس كلّ الإعلام الموجّه ضد الشعب الذي هو الضحية المستهدفة من هذه الحرب الإرهابية وتدرسه وتفنّده وتعالجه إعلامياً ونفسياً وتقترح الردود المناسبة عليه بحيث تحمي مقاتليها وأسرهم من ارتدادات الأكاذيب التي تطلقها الماكنات الإعلامية الإرهابية مثل «الجزيرة» و«العربية» وغيرهما الكثير، والتي هي جزء أساسي من الاستهداف لنا، وقد تقوم بإلحاق الأذى الذي تعجز عنه الرصاصة في بعض الأحيان.
وبالمواكبة والتلازم مع هذين المسارين، لا بدّ من إنشاء خليّة أو خلايا حقوقية، تدرس كلّ هذه الملفات وتقيم الدعاوى على الأفراد والأطراف والدول المنخرطة في دعم الإرهاب الإجرامي، كما تتناول كلّ القرارات الأممية الصادرة وتبقى المسألة حيّة في الإعلام والقضاء، مسألة استنسابية وخيارات قرارات وإهمال أخرى والحديث عن عصابات إرهابية وإهمال أخرى وتتابع هذه الفرق ذاتها تصرفات الدول التي تخالف قرارات الأمم المتحدة من خلال تمرير الإرهابيين وتمويلهم وتسليحهم، وتبقي هذه القضايا ساخنة في أذهان الدول والشعوب.
إن الدرس المستفاد الأساسي من هذه الحرب الشائنة على بلداننا، هي أن نعكف على تنظيم المجتمع منذ اليوم الأول باختصاصاته كافة، ولا نغفل أبداً أن تبقى العملية التعليمية قائمة، وأن تُتّخذ الإجراءات والتدابير التي تسمح باستمرارية، لا بل أيضاً كفاءة عمل الدولة في جميع المراحل لأن استمرار كفاءة عمل الدولة وجاهزية الشعب وتعبئته وتنظيم صفوفه في العمل في جميع الميادين تشكّل الضمانة الأساسية لتحقيق الانتصار.
في هذا اليوم الذي يُبدّل فيه الإرهابيون وأسيادهم لحى وجوههم وملابسهم وجلودهم وأدواتهم ومخططاتهم لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه خلال سبع سنوات عجاف، لا ضير أن نعتبر أنفسنا أننا على أهبة الولوج في معركة جديدة من نوع جديد، هدفها التفتيت العرقي والمذهبي والاستمرار في مخططات التدمير ودبّ الفرقة والتقسيم خدمة للمشروع الصهيوني وتمدّده وخلق كيانات رديفة له، وإذا ما استكملنا هذه الحلقة المفقودة في معركتنا، قد نخوض معاركنا القادمة بكفاءة أعلى وتضحيات أقلّ.