السلطة الأخلاقية!
حين تتحدث ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن عن «السلطة الأخلاقية»، يتساءل المرء ما إذا كانت تدرك أنها تستخدم تعبيراً يناقض تناقضاً مبرماً القرارات التي تتخذها الولايات المتحدة في ذلك المنبر الدولي، ومعظم ما قامت به الولايات المتحدة بحقّ الدول والشعوب منذ نشأتها على رفات شعب أصيل يمتلك حضارة وتاريخاً وعاداتٍ وتقاليد تمّ تدميرها بدمٍ بارد، وعلى مدى عقود، إلى أن أصبح هذا الشعب قلة قليلة وُضع في حظائر لا تشبه الحياة البشرية في شيء، كما أنّ الاستخدام الوحيد الذي شهدته البشرية للقنبلة الذرية، التي أودت بحياة ملايين البشر، كان استخداماً أميركياً في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين أيضاً بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
منذ ذلك التاريخ والولايات المتحدة تستخدم قواتها العسكرية لاحتلال بلدان وتغيير أنظمة أخرى من كوريا إلى فييتنام إلى كمبوديا وبلدان أميركا الجنوبية ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق، ثمّ ليبيا واليمن، والآن سورية، وفي الوقت ذاته تستخدم العقوبات ضدّ أيّ بلد يطمح إلى استقلال حقيقي والتحرّر من ربقة الاستعمار قديمه وحديثه، بينما تستخدم حقّ النقض الفيتو في مجلس الأمن ضدّ حركات التحرّر التي تسعى لتحرير بلدانها من الاحتلال والعدوان.
لقد كان للشعب الفلسطيني المناضل ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والطامح لتحرير فلسطين الحصة الكبرى من الفيتو الأميركي في مجلس الأمن، وليس مبالغة أن نقول إنّ الولايات المتحدة التي استخدمت الفيتو قرابة أربعين مرّة لمنع الشعب الفلسطيني من تثبيت حقوقه، قد وقفت وحيدة في وجه الأسرة الدولية وحرمت الشعب الفلسطيني من إجماع عالمي لمصلحة قضيته.
من الواضح في السنتين الأخيرتين أنّ الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يقفان في موقف مناقض لضمير الأسرة الدولية وللسلطة الأخلاقية التي يمليها هذا الضمير، ولهذا فإنّ الولايات المتحدة لا تجد بدّاً من استخدام الفيتو لكي لا تسمح للضمير العالمي أن يقول كلمته في هذا الصدد، وأن يكون سنداً حقيقياً للتضحيات الفلسطينية من أجل حرية هذا الشعب واستقلاله وإنهاء براثن العدوان عن أرضه ودياره.
اليوم، والشعب الفلسطيني مصمّم على الاستمرار في انتفاضة سلمية لم يلوثها سوى الإجرام الإسرائيلي الذي يجهز على الأطفال والنساء والشباب والشابات العزّل بالسلاح الحيّ، اليوم تستخدم الولايات المتحدة حقّ النقض الفيتو في مجلس الأمن ضدّ مشروع قرار يدعو لحماية الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي، مع أنّ الهدف الأساسي من إعطاء حقّ النقض الفيتو لحفنة من الدول هو من أجل حماية الأمن والسلم الدوليين، فكيف يستخدم هذا الحقّ ليمنع حماية شعب أعزل في وجه احتلال دموي آثم وغاشم؟
هذا شيء؛ أمّا الشيء الآخر فهو السؤال لكلّ أصحاب الضمائر الحيّة من الناطقين بلغة الضّاد: هل يروق لكم جميعاً منظر الفلسطينيين يستشهدون يومياً على تلك الأرض المقدّسة، بينما تنشغل أنظمة عربية وينشغل ساسة عرب، بتفاصيل حياة سياسية أصبحت عاجزة حتى عن إقناع أيّ مبتدئ في السياسة أنّ هذه السياسات سوف تقود إلى منعة وقوة وازدهار هذه البلدان؟ لقد رُسمت للحياة السياسية العربية قوالب وخطوط جاهزة لا تتجاوزها ولا تتعداها، وهذه القوالب تضمن الدوران في الفراغ بانتصارات شخصية هنا وخسارات جزئية هناك دون أن تكون الاستراتيجيات والرؤى واضحة ومتينة على مستوى الأوطان.
لقد فشلت معظم الدول العربية بعد استقلالها في بناء أنظمة حكم وآليات عمل وطريقة بناء تضمن التقدم إلى الأمام وتعمل على معالجة الثغرات وتعزيز نقاط القوّة والابتعاد عن الشخصيّ والانصهار في المسار الوطني العام الذي ينعكس عاجلاً أو آجلاً خيراً على الجميع، والمشكلة الأعتى أننا لا نرى في البنى التحتية والأحزاب على الساحة السياسية العربية أيّ تفكير أو تخطيط على هذا المستوى، ما يدع أصحاب القضية في عالمنا العربي، والفلسطينيون على رأس القائمة، يحاربون باللحم الحيّ، بأولادهم وبمصائرهم وبلقمة عيشهم، بينما تبقى طاقات الأمة مسخّرة لخدمة الأعداء ومن يوفّر لهم مظلّة الحماية في مجلس الأمن، ويتشدّق بالحديث عن السلطة الأخلاقية التي هو منها براء.
لقد تعلمت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من تجربة جنوب أفريقيا، حيث شكّل الضمير الدولي والسلطة الأخلاقية العالمية سنداً جوهرياً في نيل جنوب أفريقيا حريّتها، وما تفعله اليوم الولايات المتحدة في مجلس الأمن، وفي كلّ منصة دولية هو محاولة منع الضمير العالمي من التوصّل إلى مساندة كبرى لا عودة عنها إلى أن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه ويستعيد أرضه كاملة، فما السبل الممكنة في ظلّ هذا الواقع العربي الرديء لتأمين نوافذ دعم ومساندة عربية وإقليمية ودولية لهذا المسار الذي لا بديل منه أبداً؟