تشكّل زيارة الرئيس الصيني لروسيا في الفترة 22-23 من آذار/مارس 2023 إعلاناً عالمياً لبداية عصر عالمي جديد على أكثر من مستوى، ومن أكثر من منظور. فهذه هي زيارته الأولى بعد انتخابه أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني ورئيساً للجمهورية، وقد اختار البلد الذي يرأسه رئيس أصدرت بحقه محكمة الجنايات الدولية (أي الغربية) منذ أيام فائتة “مذكرة اعتقال”، وأقنع الإعلام الغربي نفسه بأهمية هذه المذكرة وخطورتها فقط ليأتي زعيم أكبر دولة في العالم ويسخّف هذه المذكرة والمصدّرين والمروّجين لها.
وكانت العبارات الأخيرة التي ودّع بها شي جين بينغ مضيفه بمنزلة إعلان للبشرية، وليس لشعبي البلدين فقط، عن آفاق التعاون بين الصين وروسيا وأبعاده، إذ قال شي لمضيفه: “التغيير الذي لم يحدث لمئة عام قادم، ونحن نقود هذا التغيير معاً “. أجاب بوتين: “أتفق معك”. أضاف شي لبوتين: “رجاءً انتبه لنفسك صديقي العزيز”. فردّ بوتين ” سفراً آمناً أرجوه لك”.
في الشكل والمضمون والعلاقات والعبارات شكّلت هذه الزيارة الهامة مفصلاً تاريخياً، ونقطة علام سوف يعود إليها الشعبان والبلدان لسنوات قادمة، وفي الوقت ذاته، أعلنت فراقاً حاسماً عن الطرائق الغربية في نسج العلاقات شكلاً ومضموناً. وفي تحدٍّ واضح للسرديات الغربية وتقديم البدائل عنها، قال تشين فانغ، وزير خارجية الصين، في تصريح للإعلام حول الزيارة: “إن التناقض الأساسي في عالم اليوم ليس على الإطلاق ما يسمّى بفكرة “الديمقراطية مقابل الاستبداد” التي تضخمها حفنة من البلدان وتبالغ في شأنها، ولكنه الصراع بين التنمية واحتواء التنمية، وبين العدالة العالمية وسياسة القوة”. وأوضح تشين أن الصين وروسيا ملتزمتان بعالم متعدد الأقطاب وديمقراطية أكبر في العلاقات الدولية، ما يلبّي دعم الإنصاف والعدالة الدوليين ويتوافق تماماً مع بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية. وأضاف: “إن هذا يمثل الاتجاه الصحيح لتقدم العصر وتطور التاريخ، ويتجاوز نطاق العلاقات الروسية-الصينية ليكتسب أهمية عالمية”.
وهذا بيت القصيد إذ، بالإضافة إلى تسارع النمو الاقتصادي الذي تنتجه هذه العلاقة الروسية-الصينية بهذا الزخم الذي سيوصل التبادل بين البلدين لهذا العام إلى مئتي مليار دولار، فإن هذه العلاقة ستكون الجذوة الأساسية التي سوف تستقطب دولاً كثيرة في آسيا وفي أميركا اللاتينية، وسوف تحدث تغييراً هائلاً في العلاقات الدولية يُري العالم، ولو بعد حين، ما هو هذا التغيير الذي قصده شي جين بينغ في عباراته الوداعية، والذي لم يحدث منذ مئة عام، والذي تعمل روسيا والصين على تحقيقه.
في تفسير هذا الحدث الهام علينا أن نتذكر الفروق الثقافية بين حضارة عمرها خمسة آلاف عام، وهي الحضارة الصينية، وبين دول مستحدثة تاريخها ملطّخ بسفك دماء الملايين من البشر وبإبادة شعوب ونهب أراضيها وثرواتها، ولذلك فهي لا تدرك للتاريخ معنى ولا تعلم، ولو حاولت، كيف تنسج العلاقات الاستراتيجية المثمرة على مدى طويل وهادئ ومتدرّج وبعيداً من الادعاءات الإعلامية المزيّفة المضخمة للسرد، والمفتقرة إلى الجوهر الحقيقي وأسس العمل الصادق والدؤوب.
واللافت في هذه الزيارة أن أوكرانيا وتايوان لم تحتلا مساحة، على الأقل على الصعيد الإعلامي، وكانت مبادرة الصين لإيجاد حل للوضع في أوكرانيا هي طوق النجاة الأخير للغرب الذي طوّق نفسه بحرب اقتصادية وعسكرية انعكست وبالاً على الدول الأوروبية بينما أنتجت تحالفاً صينياً- روسياً يزيد من سرعة التنمية في البلدين، ويحقق مظلّة لحلّ أزمات إقليمية مستعصية كالعلاقة السعودية- الإيرانية، ويبشّر بالمزيد من الانفراجات والحلول في آسيا وأميركا اللاتينية، ويترك الغرب سعيداً بأوهام قوته مع تردّي واقعه الاقتصادي وتباطؤ إنتاجيته التي سبّبها ارتفاع أسعار الطاقة الأميركية، والتي تكلّف أوروبا أربعة أضعاف الأسعار التي كانت تدفعها للطاقة الروسية.
والمراقب لهاتين الكتلتين يجد أن أهم نتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي كلّفت الغرب مئات المليارات من الدولارات ستظهر بعد حين، ويعد أن تحقق الطاقة الرخيصة التي تقدمها روسيا للصين والهند تأثيراً إيجابياً على منتجات هذه البلدان، والتي ستصبح من دون شك منافسة للسلع الأوروبية والأميركية، وقد تخرجها من الأسواق العالمية في وقت ليس ببعيد. فإذا كانت الولايات المتحدة قبل هذه الحرب قلقة من صعود الصين اقتصادياً وتعاظم دورها العالمي، فإنها يجب أن تكون اليوم في غاية القلق بعد أن دفعت روسيا لتضع كل مواردها الطبيعية في خدمة التنمية الصينية والهندية من خلال علاقة استراتيجية معمّقة تؤذن بالفعل بفجر عالم جديد وعصر جديد للبشرية برمتها.
وبعد قرار محكمة الجنايات الدولية (الغربية ) اعتقال الرئيس بوتين، يأتي رئيس أهم دولة في العالم ليقدّم له الدعم قبل انتخاباته، وليقدّم له دعوة لزيارة الصين هذا العام ضارباً بقرار المحكمة والقائمين عليها عرض الحائط وبقرارات الغرب التي يبني عليها برجاً من الأوهام، وهذا شأن لا يستهان به في وجه موجة العقوبات التي اعتاد أن يمارسها الغرب الاستعماري ضد أي بلد أو شعب لا يسير في الاتجاه الذي يرضي الغرب الذي لا تخرج عقليته عن نطاق الهيمنة الاستعمارية وبما يخدم مصالحه، وبالنظر إلى نتائج هذه العقوبات فإن المؤرخين لن يجدوها جديرة بإضاعة وقتهم حتى لاستعراضها أو النظر في نتائجها؛ لأنها قد لا تخرج عن كونها فقاعات إعلامية تشبه تخبّط الديك المذبوح وهو يقترب جداً من مفارقته الحياة.
في المراحل القادمة، سوف يزداد التشبيك بين الدول المتماثلة التفكير، والتي ضاقت ذرعاً بالهيمنة الاستعمارية الغربية، والتي سوف تنحاز حكماً إلى التكتل الروسي-الصيني والذي بدأ، ومنذ اليوم، بتقديم البدائل الاقتصادية والتنموية والسياسية لكل من هو راغب فعلاً في رؤية نهاية الصلف والعنصرية الغربيين في التعامل مع شعوب الأرض.
أما الشعوب الأوروبية في مختلف أقطار الاتحاد الأوروبي، فسوف تنتفض يوماً لتدين ما قام به حكامها ضد مصالحها؛ رضوخاً للمخابرات الأميركية التي تفرض على السياسيين الأوروبيين الخضوع والخنوع للسياسة والمصالح الأميركية ضد لقمة عيش شعوبهم ورفاهها، فيما صمدت كوبا ذلك البلد الصغير، ولأكثر من نصف قرن، متحدية الإجراءات الأميركية الظالمة. ولن تتمكن السرديات الإعلامية المضلّلة من الصمود في وجه الحقائق التاريخية الدامغة، والتي ستشكّل المعين الوحيد لتقييم عالم اليوم وإصدار الحكم العادل بحقّه.