منذ أن خطّت القوى الطامعة في الأرض والثروات العربية اتفاقية سايكس بيكو اتبعت منهجية واحدة ومستمرة وعلى مساحة العالم العربي ألا وهي “تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم” ووضعت معها آليات وضمانات تمنع منعاً مطلقاً أي تقارب حقيقي بين دولتين عربيتين أو أي جهد مهما صغر يهدف إلى جمع الطاقات وتوحيد الإمكانات، وفي الوقت ذاته ساهمت مساهمة فعالة وذكية وإن تكُ غير مباشرة في تضخيم ما أسموه “الهوية الوطنية” بعيداً عن الهوية العربية وتضخيم مفردات كلّ بلد على حدة؛ حتى أن الكثيرين أهملوا المشترك والأهم بين أبناء الضاد وأبناء الأمة الواحدة التي تتكامل فعلاً في المقدرات البشرية والمادية. ورغم بعض الجهود الخجولة أحياناً أو المرتجلة أحياناً أخرى ورغم بعض النوايا الحسنة التي أدركت ماتمّ التخطيط له وحاولت فعلاً استجماع رأي عربي ووضع آليات عمل عربية لقلب هذا الواقع رأساً على عقب وتأسيسه على أسس استراتيجية جديدة ومناقضة كلياً لما يريده الأعداء والطامعون، إلا أنّ هذا لم يحصل فعلاً؛ فقد ظهرت بشائر جهود توحيدية إلا أنها لم تكن مدروسة دراسة مؤسساتية ولم تعتمد آليات عمل قادرة أن تغيّر مسار دول، وبهذا فقد انقضى قرن من الزمن بعد تلك الاتفاقات وتجذّرت المصالح المحلية على حساب المصالح العربية الكبرى وبدأ الفراق بين الدول العربية يكبر ويكبر إلى أن تمّ نسيان المصالح العليا التي تجمعهم جميعاً وتجاهُل المقولات الأكيدة التي ترى أن مصلحتهم ومصلحة شعوبهم واحدة في النهاية. في كلّ هذا المسار وبعد وعد بلفور كان العدو الصهيوني يعمل على ثلاث جبهات وبشكل منظم وفعّال: الأولى هي تقوية بنيته الداخلية وقضم المزيد من الأراضي يومياً وتطوير مستوطناته وطرد السكان العرب الأصليين من مسلمين ومسيحيين بذرائع اخترعها لنفسه ولا حسيب ولا رقيب عليه. والمسار الثاني هو حملة علاقات دولية معتمدة على عجز العرب عن الوصول إلى الرأي العام العالمي ووضع الحقائق الصلبة بين يديه، وأيضاً معتمداً على اتفاقات لاتصب في صالح العرب، بل تمنحه المزيد من الشرعية على الساحة الدولية فحقق فتحاً هاماً على مستوى العلاقات لم يكن ليحلم به قبل عقود.والمستوى الثالث هو العمل داخل البلدان العربية وبالتعاون طبعاً ودائماً مع الولايات المتحدة الأمريكية لإلهاء هذه البلدان بحروب لاطائل منها تبدّد ثرواتها وتقوّض مكانتها وتدخلها في أتون التخلف وتراجع المعرفة بشكل خطير. وقد كانت الحرب التي غذّاها وشجعها الغرب بين العراق وإيران هي الإسفين الأول الذي دقه الأعداء في جسد العراق البلد العربي الجامع للفكر والعلم والإبداع والثروات والطاقات البشرية الهائلة. وقبل ذلك وخلاله وبعده ضمان عدم حصول أي تقارب بين العراق وسورية باي ثمن كان كي لا يشكّل هذان البلدان كتلة وازنة في وجه المخططات الصهيونية للمنطقة، واستمرّ هذا المنع على مدى عقود ولا يزال وبأشكال مختلفة ولأسباب غير مبررة منطقياً إطلاقاً. ولكن وحين اشتدّ عود الصهيونية أكثر وتزامن ذلك مع ضعف ملحوظ للعالم العربي وتفرقة لايمكن رأب صدعها بدأ تنفيذ مخطط تدميري لعدد من الدول العربية باسم الربيع العربي مستخدمين فيه أدوات إرهابية عمل الكيان الصهيوني على استقدام بعضها وتمويله وتسليحه كما عمل أردوغان على فتح حدوده كاملة كي تعيث هذه العصابات الإرهابية بمقدرات الدول العربية وتضعف إمكاناتها وتخلق الدمار والفوضى في صفوفها بحيث يصعب إعادة بناء ماتم تدميره وينشغل العرب بالعودة إلى تأمين الأساسيات لعقود قادمة. طبعاً كلّ هذا بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإخراج العراق من دائرة الفعل العربي والذي سبقه إخراج مصر من دائرة الفعل العربي المقاوم للصهيونية ومخططاتها في فلسطين والمنطقة. وخلال هذا الوقت لم يتمكن العرب من إرساء أي حجر أساس حقيقية لعمل عربي مشترك يقاوم بالفعل لابالقول هذا المسار الخطير الذي يشهدونه والذي يستهدفهم جميعاً دون استثناء.
اليوم وفي حمأة ضعف عربي وفرقة وشرذمة ملحوظة يطرح الكيان الصهيوني صفقة القرن لأنه يرى الوقت مناسباً نتيجة عجز الفلسطينيين عن توحيد كلمتهم وعجز العرب عن توحيد مواقفهم ونضوج المناخ في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة لصالح هذه الصفقة وتنفيذها في أسوأ الأوقات التي شهدها الوطن العربي. ولكنّ الصفقة لاتهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية فقط ولكنها تهدف إلى بسط سيطرة الصهيونية الفعلية على الشرق الأوسط برمته واستنزاف طاقاته وتحويله إلى سوق لمنتجاتها وجعل العرب عمالاً لديها وزبائن لشراء بضائعها. وما تشدُّقات نتنياهو رئيس وزراء الكيان بأن عدداً قليلاً من الدول العربية ليس لديها علاقات معنا سوى تطلّع إلى نشر هذه العلاقات مع كلّ الدول العربية والاستثمار بها لصالح الصهيونية والمستعمرين وتحويل الدول العربية إلى مستعمرات مستهلكة وغير منتجة.
ولهذا فإن النهوض الشعبي في العراق لإنهاء الاحتلال الأميركي وتحرير سورية كلياً من الإرهاب هما الخطوتان الأساسيتان اللتان يجب أن تبنى عليهما استراتيجية جديدة تضع التعاون والتعاضد بين الدول العربية أساساً للعمل العربي المشترك وتأخذ في الحسبان أن أي دولة عربية مهما بلغت مقدراتها غير قادرة على الوقوف في وجه استراتيجية صهيونية غربية تستهدف العرب جميعاً وتبدد طاقاتهم وتستنفذ قواهم ومقدراتهم خاصة وأن العثماني الجديد يطلّ برأسه على سورية وليبيا والعراق طامعاً بأراضيهم وثرواتهم ومحاولاً أن يعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على الفضاء المتوسطي. وفي كلّ ما يقوم به سواء اعترف بذلك أم لم يعترف فهو يستكمل خطوات الاستيطان الصهيوني في فلسطين والجولان والأردن، ويتقاسمان الأرض والموارد على حساب السكان الأصليين لهذه الأرض. ما أصبح بداً لابد منه اليوم هو وضع استراتيجية جديدة تدرس الوضع الكلّي في العالم العربي وتحاول تجميع الخيوط التي من الممكن أن تعيد نسج واقع هذه الأمة على أسس مؤسسات كلية ومن خلال استراتيجيات طويلة الأمد وبعيداً عن القرارات المجتزأة والتي وإن آتت أكلها في أحد المجالات فهي غير قادرة على معالجة الوضع برمته.
المرحلة اليوم هي مرحلة إعادة تحفيز وعي الشعب العربي في كافة أقطاره بالأخطار المصيرية المحيطة به وأنها قد تكون الفرصة الأخيرة ليس لفلسطين فقط وإنما لنا جميعاً قبل فوات الأوان كلياً. كانت فلسطين ساحة تجارب للعدو الصهيوني وهو يرى أنه نجح في تمزيقها وإنكار حق العودة لأهليها، وبدأت خطواته المتسارعة جداً باتجاه الوطن العربي بأكمله، فهل نتعلم الدرس ونستدرك الحال قبل وقوع مانعتبره المحال؟.