لم أجد من المستساغ أبداً أن يقدّم لي أحد أي تهنئة باليوم الذي أعلنته الأمم المتحدة يوماً عالمياً للمرأة، وذلك لعدة أسباب؛ أولاً، لأنّ الاحتفاء بالمرأة بتخصيص يوم لها فيما تعيش كل أيام السنة تتصارع مع مفاهيم متوارثة وأساليب عمل وحياة تفرض عليها أصعب الخيارات دون معالجة أي من هذه الصعوبات بشكل مؤسساتي وجذري وفعّال، فقد أصبحت المرأة عاملة ومشاركة في إنشاء الأسرة، ولكن دون إزاحة الأعباء التقليدية عن كاهلها إلا ما ندر منها، ودون إعطائها فرصة الإبداع والخلق والمتعة فيما تقوم به، سواء كعاملة في المجال العام أم كأُمّ تنجب وتربي وتورّث القيم والمفاهيم. وما ادّعته المجموعة الغربية من تحرير للمرأة ما هو إلا بضع قشور أساءت إليها أكثر من فتح الأبواب لها للتعبير عن طاقاتها الخلّاقة في المجال الذي اختارته، وهذا حديث يطول وذو شجون.
ولكنّ السبب الأساس لرفضي تسمية الثامن من آذار/مارس عيد المرأة العالمي هو ما يجري للنساء في فلسطين تحت أنظار العالم أجمع، وخصوصاً العالم الغربي الذي يدّعي “التحضّر” ويتشدق بعبارات تبين أنها فارغة في حقوق المرأة والطفل والإنسان، إذ تركز الإبادة والتطهير العرقي اللذان يقوم بهما الصهاينة في فلسطين على قتل النساء والأطفال بأعداد مرعبة كي لا تنجب النساء بعد اليوم أطفالاً يقاومون احتلالاً عنصرياً بغيضاً ويزعزعون أسس اغتصابه الاستعماري الممقوت عالمياً للأرض.
على مدى 5 أشهر ونيف، تستبيح قوات الاحتلال الصهيوني حياة النساء والأطفال، كما لم يحدث أبداً في التاريخ، ونحن ننتظر المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة ومخابراتها، والتي تدّعي أن هدفها الأساس هو حماية حقوق المرأة وتفعيل دورها، وننتظر منها أن تعلن غضباً عارماً وعملاً مشهوداً لحماية حق المرأة الفلسطينية في الحياة على أرضها، ولكن لا مجيب. منذ أشهر ونحن نتطلّع إلى ما يمكن لما يسمّى “النظام الدولي” الذي هو عملياً “النظام الغربي” وهيئات الأمم المتحدة أن يتخذوا قراراً يساعد على الأقل في حماية من لا يزال على قيد الحياة من النساء والأطفال، ولكنّ المشهد أكثر من مخزٍ، والنتائج أكثر من محبطة. وقد أظهرت وحشية القيم التي يشاركونها مع كيان “الأبارتيد” الصهيوني الجاثم على فلسطين.
إنّ جريمة إبادة عشرات الآلاف من النساء والأطفال في فلسطين والدعم السخي بالسلاح والذخيرة المدمّرة المقدّم من الغرب لمرتكبي هذه الجريمة الوحشية ينزع عن الغرب مرة وإلى الأبد أي حق له بادعاء الحضارة أو ادعاء العالمية أو ادعاء الحرص على حقوق المرأة والطفل في أي مكان في العالم أو أي قيم إنسانية حضارية. فكفى احتفالات بعيد “الحب” الذي اخترعه الغرب ليغطي على حجم الكراهية التي ينفثها ويمارسها ضد الشعوب الأخرى! وكفى احتفالات بيوم المرأة العالمي لأنّ ما يصدر عن الغرب لا يستحق أن يُعطى صفة العالمية، بما أن كل مفاهيمه وخططه ومؤسساته تهدف إلى حماية ذاته حتى على أنقاض وجماجم الملايين من الشعوب في كل أرجاء العالم!
والسؤال الوجيه الذي علينا أن نطرحه اليوم بهذه المناسبة: لماذا كل هذا الحقد وهذا الانتقام من المرأة والطفل في فلسطين؟ هاتان الفئتان لم تحملا السلاح ولم تقاتلا عدّواً متوحشاً كـ”إسرائيل”، ولم تُتح لهما الفرصة أن تكونا جزءاً من المعركة على الأرض.. فلماذا يتمّ استهدافهما بكل هذا القدر من الوحشية، فيما تدعو كل الأديان والأعراف وثقافات الشعوب المختلفة عبر التاريخ إلى الرفق بهما أثناء الحروب ومحاولة إنقاذهما من إفرازات ونتائج الصراعات المسلحة؟
الجواب عن هذا السؤال نجده لدى المرأة التي تستحق التكريم كل يوم، وليس فقط في الثامن من آذار، وتستحق إعلاء شأنها ضمن ثقافتها ووطنها وأرضها ومؤسساتها. إنها المرأة المقاومة المتشبثة بالأرض والعاملة على زرع محبة هذه الأرض في كل خلية من خلايا أبنائها، المرأة الناقلة للثقافة والتراث والحكايا والحرف من جيل إلى جيل، المرأة التي احتضنت شجرة الزيتون متحدية الجرّافة الإسرائيلية، والمرأة السورية التي قدمت 5 شهداء من أبنائها، ودفعت بالسادس والأخير للالتحاق بواجبه في سبيل الوطن، معلنةً أنّ أرواحنا جميعاً رخيصة في سبيل الوطن.. وبدون الوطن لا وجود لأيّ منا، والمرأة الجزائرية التي عاشت على الجبال وكانت الأداة الأساسية لإيصال شريان الحياة إلى المقاومين، والسورية التي كانت تنقل الأسلحة والمؤونة للمجاهدين في الغوطة تحت عباءتها وتشكّل ظهراً آمناً لمقاومتهم.
ولا شكّ لديّ في أنّ المرأة أدت دوراً مماثلاً في تاريخ واستقلال بلدان وشعوب أخرى، فقد كان صوت جون فوندا يهزّ الضمائر ضد الحرب الأميركية على شعب فيتنام، كما كانت نساء جنوب أفريقيا المدد والسند لمقاومي حكم الفصل العنصري والساعين إلى تحرير بلدهم من حكم الأبارتهايد البغيض.
في كل حروب التحرير، كانت المرأة هي التي تمدّ المقاومين بسبل العيش والاستمرار. وفي أوقات التجويع والحصار، كانت هي التي تخترع وتبدع لإطعام من تستطيع إطعامه من ضحايا القصف والحرب والعدوان، وكانت هي الراسخة في الأرض والعاملة على إحيائها وتوريث القيم والتاريخ للقادم من الأجيال.
لذلك، فإنّ حرب الإبادة التي يشنّها الصهاينة والداعمون لهم في الغرب على النساء والأطفال بشكل خاص في فلسطين تهدف إلى اجتثاث رحم المقاومة ومرضعتها الأساسية، وإلى تدمير هذا الإرث التحرّري الغني الذي كان ضمانة لاستمرار المقاومة عبر السنوات والعقود. ومن هذا المنظور، فإنّ المرأة الفلسطينية ليست الوحيدة المستهدفة، بل كل امرأة وإنسان في العالم، وكل هذا الإرث العريق والتاريخي الذي يستحق لقب “حضاري”، فيما لا يستحق الغرب المتوحش وأعوانه من عملاء متصهينين، والذين لا يعرفون من الحياة سوى الحروب والقصف والقتل والتعذيب والإرهاب والتدمير، لا يستحقون إلا لقب المتوحشين. فكفى المسؤولين أن يقولوا إنّ ما يجري هو وصمة عار على الحضارة، ولكن لا توجد حضارة، أيّ حضارة وأيّ نظام عالمي يسمح بأن يشهد كل هذا التطهير العرقي من دون اتخاذ موقف حاسم وجريء وفعّال ضده؟ لقد قال الله في كتابه الكريم: “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً”.. وما لم يشعر البشر جميعاً بأنّ قتل النساء والأطفال في فلسطين هو قتل لهم، فإنّ إنسانيتهم تبقى منقوصة، لأنهم كما قال أدونيس تعني أنّ الذات لا سيادة لها حتى على نفسها، وأن لا زمن لمن يعيش ويفكر ويعمل تابعاً للآخرين.
في جريمة الإبادة التي يمارسها الصهاينة اليوم بحق الفلسطينيين، يكاد يكون العالم برمّته عاجزاً أن يبتكر زمنه بعيداً عن زمن الغرب وإملاءاته. وبهذا، فإنّ الزمن اليوم تطهير عرقي للفلسطينيين وسجن للإرادة والفعل الدوليين، والمطلوب ليس فقط إعلاء الصوت نصرة للحق ولفلسطين، إنّما أيضاً التحرّر من السجن المفهوماتي الذي فرضه الغرب على العالم. ما كان لهذه الإبادة البشعة أن تستمر خمسة أشهر لو أنّ الناس في كل مكان يمتلكون السيادة على أنفسهم. والانتقام الشنيع من النساء والأطفال يعود في أحد أسبابه إلى أنّ المرأة المقاوِمة والمقاوَمة عموماً تحاول أن تجترح زمنها وأدواتها بعيداً عن إملاءات الآخرين. لهذا، فإنّ الغرب الذي استعبد زمن الآخرين يشعر بخطر وجوديّ عليه. وقد صبّ كلّ دعمه لإبقاء أداته في ارتكاب الجريمة هذه، لأنه اعتبر ما يجري في فلسطين حرباً وجودية، ولأنّ الانتصار فيها يعني التحرر الحقيقي من الاستعمار الداخلي للإنسان. كما أنه يقدّم سابقة تنذر بسقوط الغرب في شرّ أعماله..
من هنا، فإنّ الدعم الحقيقي لمن يضحّون من أجل الحرية على أرضهم هو دعم لحرية الإنسان في كل مكان على هذا الكوكب. ولذلك، يمنع الغرب كلّه الصحافيين من الذهاب إلى غزة لنقل الصورة الحقيقية لجرائم حرب الإبادة التي يشنّها مجرمو الحرب في الحكومات الغربية. ولذلك تقوم مؤسسات التواصل الاجتماعي بكتم أصوات من يحاول أن ينشر عن جرائم الإبادة. لقد تمّ إغلاق حرية التعبير والإعلام في الغرب تماماً، ويتمّ قمع كل مظاهر الاحتجاج على جرائم الإبادة وبشكل رسمي حكومي.
لقد تحوّل الغرب إلى سور قمع حديدي جديد يمنع مواطنيه من حريات شخصية يَتَمتّع بها مواطنو بلدان العالم خارج سور القمع الصهيوني الكاتم للأصوات، فترى الإعلام الغربي يتكلم بصوت واحد في كل بلدانهم، ومن مصدر حكومي واحد، ليعيد التجربة السوفياتية بنسخة صهيونية.