تواجه البشرية برمّتها اليوم ثلاثة مستويات للتهديد المباشر الذي يؤرق أصحاب الضمائر الحرة والذين يعبرون عن أرقهم بدموع صادقة ونداءات مخلصة هنا وهناك تهدف إلى تحريك الضمائر والخطوات في وقت يسابقهم شبح الموت لاقتناص المزيد من أطفال ونساء ورجال غزة وفلسطين حيث يجثم على أرضها آخر وأبشع احتلال والأكثر حقداً ودموية من أي استعمار استيطاني عنصري عرفته البشرية عبر التاريخ.
التهديد الأول هو الذي انتهك حرمة الحياة وحرمة الموت وحرمة الطب وحرمة الإعلام وحرمة المسجد والكنيسة والجامعة والمدرسة وحرمة الشجر والحيوان، فحكم بالقتل العنصري البغيض على كل هؤلاء لا فرق بين رضيع وشيخ كبير، وتتبعهم بآلة الذبح والقتل من مكان إلى مكان في حرب إبادة مخططة ومعلنة، وتلقّى الدعم والتمويل من دول الغرب التي تدّعي “الحضارة” والحرص على “حقوق الإنسان” . وهذا التهديد، مع أنه أولاً وقبل كل شيء يستهدف حياة العرب عموماً والفلسطينيين حالياً، إلا أنه في واقع الأمر تهديد لحياة الملايين من البشر في كل مكان، فالنظام الذي يستطيع أن يقتل بدون رادع ولا خوف من عقاب يستطيع أن يكرر جريمة الإبادة في كل بلد. وحرب الإبادة الجماعية الجارية في غزة منذ خمسة أشهر إنما هي امتحان صعب لأخلاق الإنسان حيثما وُجد على وجه هذه الكرة الأرضية لأنه يفصل بشكل حاسم بين العنصرية والتعايش، وبين الإرهاب والحياة الإنسانية الآمنة السويّة.
التهديد الثاني والذي ساعد التهديد الأول على إيضاحه بشكل جليّ هو التهديد الذي يعتري اللغة والسردية بحيث أصبحت اللغة الإعلامية التي يستخدمها الغرب في التغطية على جرائم الإبادة والوحشية الشريكة إما في القتل أو في تبرير قتل المظلوم رغم انتشار هذه الحالة وندرة الحالة المعاكسة. فماذا يفعل الذي لا يمتلك سوى اللغة أداةً حين يرى قتلة يجهزون على طفلة بعمر ست سنوات (هند رجب) في سيارة قتل الإسرائيليون كل أهليها ثمّ أجهزوا عليها؟ وكتب الإعلام الغربي كعادته عن ضحايا الإرهاب الصهيوني بعد ذلك: “طفلة وُجدت “ميتة” في سيارة”. صيغة المبني للمجهول في الإعلام الغربي الداعم للإرهاب والإبادة الجماعية هي سيدة الموقف كي لا يحمّلوا القتلة الحقيقيين الواضحين للعيان، وهم الإسرائيليون، مسؤولية القتل والجريمة والإبادة اللامسبوقة في تاريخ البشر. وسائل الإعلام الغربية سيطر عليها الصهاينة ولذلك فهي برمّتها تقف سداً في طريق كشف الحقيقة وتمنع القارئ من اقتباس ضوء لما جرى ويجري، وتدفن بشاعة ما يتم اقترافه من جرائم إبادة جماعية بحق البشر والتاريخ والإنسانية وحتى بحق حرمة الموت والأموات بين عبارات منمّقة وفواصل ونقاط وإشارات تخلق بحراً من المسافات بين ما يجري على الأرض وما يتمّ اجتزاؤه كي لا يتمّ الكشف الفاضح والواضح عن المجرمين لأنهم منهم.
التهديد الثالث والذي هو مرتبط عضوياً بالتهديدين السابقين ولكنه أشمل وأعمق منهما هو التهديد الوجودي للبشرية برمّتها والذي عبّر عنه مئة مسؤول سياسي سابق وبعض الفائزين بجائزة نوبل ورؤساء منظمات خيرية في رسالة موجهة إلى القادة السياسيين في العالم يدعونهم بها إلى اتخاذ مقاربات جديدة وجريئة لمواجهة التهديدات الوجودية الكارثية للبشرية جمعاء. ومع أن هؤلاء لم يأتوا على ذكر احتلال فلسطين ولا على ذكر ما يحدث هناك من إبادة جماعية لا نظير لبشاعتها إلا أنه من الواضح جداً أن ما يتمّ اقترافه من جرائم إبادة جماعية في فلسطين والصمت الرهيب الذي يحيط بداعمي المجرمين وشركائهم في الذبح والقتل والتهجير يُحدث تحوّلاً هائلاً ويطرح أسئلة غير مسبوقة على كل إنسان يحيا على هذه الأرض ، وأن ما يجري من ظلم ومن إبادة جماعية للبشر ومن انتهاك حرمات ومن صمت مطبق من القادرين على إيقاف هذه الإبادة المخزية سيولّد ارتدادات لا تحمد عقباها وسيكون على الجميع وفي كل مكان دفع أثمان دعمهم للظلم أو صمتهم عنه أو المشاركة الخفية أو غير المباشرة في وقوعه.
وإذا كان شرّ البلية ما يضحك فإن شرّ المصادفة هو أن هذه الرسالة الموجهة للقادة السياسيين في العالم قد نُشرت في اليوم الذي توجه فيه مدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي “إف بي آي” كريستوفر راي إلى فلسطين والتقى عملاء من وكالته متمركزين في تل أبيب وأكد على أهمية عملهم الذي يتعلق بالمشاركة الفعلية في حرب الإبادة الجماعية لعرب غزة من خلال شيطنة حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني، وأكد راي في بيانه أن “شراكة مكتب التحقيقات الفدرالي مع نظرائنا الإسرائيليين طويلة الأمد ووثيقة وقوية، وأنا واثق من أن التقارب بين وكالاتنا ساهم في التحرك بسرعة كبيرة رداً على هذه الهجمات ” أي أن قتل أكثر من مئة ألف فلسطيني من النساء والأطفال واستهداف الأطباء والإعلاميين وتدمير الجامعات والمشافي والمدارس والمساجد والكنائس والإذلال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 75 سنة يتم بالشراكة والتنسيق بين منظمتين وطبيعتهما القتل والمزيد من القتل هما: “إف بي آي” والعنصريين النازيين المجرمين الإسرائيليين في أجهزة المخابرات الصهيونية، وأنه قادم للاجتماع بوكلائه في المنطقة الذين يديرون شبكات التجسس وعصابات الاغتيال ويكمّون الأفواه ويساهمون في تدمير بلدانهم وفق خطط مسؤولي الـ “إف بي آي ” وغيرها. فإلى أي قادة سياسيين وصناع قرار يتوجه القادة العالميون السابقون لتدارك الخطر الوجودي الكارثي إذا كان الحاكم الفعلي في الغرب وفي كل ما يجري لشرقنا هو الاستخبارات الدموية التي لا رادع قانوني لجرائمها والتي تدير عملية “الديمقراطية” وتحدد من يصل إلى الكونغرس والرئاسة؟ ومن يحكم الغرب اليوم وكل ما يجري في الغرب هي هذه الشبكة الاستخباراتية التي لا تحترم أية قوانين أو حرمات أو مشاعر إنسانية أو قضايا عادلة أو تهديدات مصيرية لحياة الشعوب والبلدان.
أعتقد أن التحدّي الأساسي في عالم اليوم والذي تتفرّع عنه كل التحديات المختلفة التي تشكل تهديداً وجودياً للبشرية وانتهاكاً لحرية الإنسان وحرمة الحياة والموت هو العنصرية المتجذّرة في نفوس استعمارية تؤمن بتفوقها العرقي على كل بني البشر وبتابعية الجميع لمصالحها ورؤاها. فمنذ اكتشاف الولايات المتحدة وإبادة السكان الأصليين فيها وفي أستراليا ونيوزيلاندا وكندا تبنّى الغرب عقيدة إخضاع الآخر بالقوة والسلاح لاحتلال أرضه ونهب ثرواته وإحداث التنمية في بلدان الغرب على جماجم الآخرين وحطام ثقافتهم وتاريخهم مستنداً إلى إعلام وأنثروبولوجيا واستشراق عَمِل عليه لمدة عقود لتكريس التفوق الغربي على بني البشر وإخضاع هذه الشعوب نفسياً تمهيداً لإخضاعها عسكرياً وميدانياً.
من هنا يأتي الترابط بين التهديدات الثلاث: التهديد في فلسطين، والتهديد في اللغة والسردية الإعلامية ودورها، والتهديد الوجودي الاستعماري الكارثي الذي يهدد البشرية، ولا يمكن مواجهة واحد من دون الآخر، ولا يجب الاستهانة بالموقف الجريء والشجاع من كل ما يجري لأنه يشكل توطئة ضرورية لموقف أعمّ وأشمل ضد تهديدات العنصرية والقتل والإبادة والموقف الاستعلائي. إن طروحات الرئيس الصيني شي جينبينغ عن مصير مشترك للبشرية وتنمية عالمية وأمن عالمي واحترام متساوٍ بين الدول صغيرها وكبيرها هو البديل الحتمي لحكم الدولة العميقة المتعطشة للحروب وسفك الدماء والإبادة التي مَرَدَ الغرب على استخدامها ضد بلداننا، ولأسلوب الحروب وإثارة الفتن والتغطية عليها بلغة مداهنة مواربة تُفقد اللغة الإعلامية دورها وقدسيتها ورسالتها التي وُجدت من أجل نشرها. ومن هنا فإن الموقف الجريء دعماً للعدالة في فلسطين هو موقف إجباري لكل الحريصين على المجتمع البشري لأن ما شاهدناه وعايشناه من جرائم إبادة وتجويع وانتهاك صارخ يدنّس قدسية حياة البشر ويهدّد مستقبلها تهديداً وجودياً وكارثياً بالفعل.