وصلتُ إلى موسكو في 26/2/2023 لحضور مؤتمر فالداي الدولي للحوار السياسي والذي يحضره كلّ عام نخبة من المفكّرين والباحثين من كلّ أنحاء العالم. كان الوصول مساءً وكانت موسكو مشعّة بالأضواء الملوّنة، آمنة وهادئة وبعيدة كل البعد عن الصخب الإعلامي الغربي الذي اتخذ لنفسه طريقاً بتغذية الأوهام والابتعاد عن الحقائق، وكعادته، شيطنة الشعوب وثقافتها وتاريخها باعتبار هذا الإعلام الغربي أداة من أدوات حروب الهيمنة الإمبريالية على العالم.
وكان أول اجتماع مهم عقدتُه مع مدير وباحثي مركز أبحاث “بريماكوف” الذي يضمّ آلاف الباحثين من المتخصصين والسفراء السابقين وفي الاختصاصات كافة. وقد تناقشنا مطوّلاً في الوضع الإقليمي والدولي وكان الاستنتاج دائماً من كلّ المحدثين، الرسميين وغيرهم، أن هذا المسار الذي اتخذته روسيا في أوكرانيا هو مسار مصيريّ ولا بديل أو تراجع عنه أبداً وأن روسيا التي لم تُهزم في تاريخها لن تُهزم في هذه الحرب أيضاً.
وقد قدّمت لي إحدى الباحثات إضاءة مهمة على جذر الحرب في أوكرانيا خاصة وأن الشعب الأوكراني هو أكثر التصاقاً بالشعب الروسي لغةً وتاريخاً وعادات وثقافة. وفي هذا المجال فقد أبدى الجميع عميق أسفهم أن يُقتل الأوكرانيون والروس في معركة افتعلها الغرب وما زال يصرّ على تأجيجها بالمال والسلاح بهدف إطالة أمدها.
قالت لي الباحثة في معرض حديثنا عن الحروب الجديدة ضدّ الهويات الوطنية إن الحرب في أوكرانيا بدأت منذ عقود كحرب ناعمة على الهوية الروسية، ففي الوقت الذي كانت اللغة الروسية أساسية في أوكرانيا تمّ إقناع الأوكرانيين بالتخلّي عن اللغة الروسية تماماً في مدارسهم وتدريس اللغة الأوكرانية.
كما تمّ تغيير كل المناهج التربوية الأوكرانية لكي تخرّج أجيالاً من النازيين المعادين جذرياً لروسيا، وتمّ تغيير كل المفاصل في الدولة الأوكرانية لتصبح معادية لروسيا واستبدالها بأتباع الثورات الملوّنة المقتنعين بتفوّق الغرب الأسطوري الدائم والأبدي. أي أنها كانت حرباً ثقافية وعقائدية قبل أن تتمّ ترجمتها إلى حرب عسكرية على الأرض. وهذا ما يجب الانتباه إليه في كل بلدان العالم: اللغة والانتماء والهوية الوطنية هي الركائز الأساسية لقوّة الدولة قبل الخوض في المجال العسكري.
ثمّ كان انطباعي في مؤتمر فالداي ومن خلال كل النقاشات التي دارت في قاعات المؤتمر وخارجها أنّ روسيا تعلم اليوم أنّ هذا الصراع في أوكرانيا سيطول أمده لأن نهايته ستعني نهاية الهيمنة الغربية، ولهذا فإن الغرب يدفع بكل ما لديه من مال وسلاح لكسب نتيجة هذا الصراع ولكنّه لن يفلح.
ونحن في فالداي غادر وزير الخارجية الروسي إلى باكو لبحث الأوضاع، وكان وزير خارجية بيلاروسيا قد عاد للتوّ من الصين في زيارة أثارت قلق الغرب وحنقه لأنّ أخشى ما يخشاه الغرب هو أن يسير الشرق بأسلوب مشابه لذلك الذي اعتمده الغرب منذ عقود ألا وهو إعطاء الأولوية لإنشاء تحالفات حميمية وقادرة على إرهاب الخصوم والأعداء.
فإضافة إلى التحالف بين دول الناتو وبين الولايات المتحدة وأوروبا فعّلت الولايات المتحدة منذ وصول بايدن إلى السلطة التحالف الرباعي “كواد(QUAD) ” مع اليابان والهند وأستراليا، والتحالف الثلاثي “أواكس”AUAKUS) مع بريطانيا وأستراليا، وكلّها تهدف إلى احتواء مخاطر الصعود الصيني.
ومن باكو سافر لافروف إلى الهند لحضور الاجتماع الوزاري التحضيري لقمة العشرين والتي سيحضرها الرئيس بوتين في الهند، وعلّ هذا الاجتماع هو أول بلورة للجهود الروسية الصينية المشتركة لبناء تحالفات جديدة في وجه الهيمنة الغربية. فقد رفضت الصين وروسيا والهند إصدار بيان يدين العملية الروسية في أوكرانيا، وهذا تطوّر مهم من قبل هذه الدول الوازنة سكاناً وصناعةً وتقدّماً بحثياً وثروات هائلة وآفاقاً مستقبلية كبيرة.
فالصين تعلم علم اليقين أن أعين التايوانيين متجهة إلى أوكرانيا وبانتظار نتائج الحرب هناك، وستكون هذه النتائج حاسمة في اتخاذهم موقفاً من علاقتهم مع الصين ومع الغرب، والصين تعلم أيضاً أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنشأت وحدة متخصصة في قضايا الصين تعرف باسم: (سي أم سي CMC ): ” تهدف إلى تعزيز العمل بشأن أهم تهديد جيوسياسي تواجهه أميركا في القرن الواحد والعشرين، أي حكومة صينية متزايدة العداوة” .
وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ الوكالة التي تؤسس فيها وحدة متخصّصة لدولة واحدة، حيث تتّبع الوكالة نظام التقسيم الجغرافي، ولم يتغيّر هذا النظام حتى في أوج الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي سابقاً. وتقود الوكالة منذ عام 2021 حملة توظيف للمتحدّثين باللغة الصينية وعدد من لهجاتها المحليّة، إضافة إلى خبراء في الشؤون الصينية بصفة عامة.
ولا يزال وليام بيرنز رئيس الوكالة يحضر اجتماعاً أسبوعياً مع وحدة الصين الجديدة، أي أن العمل جارٍ على قدم وساق من أجل اختلاق “ربيع صيني”، ولا شكّ أن الصين تدرك ذلك جيداً. أي أن الولايات المتحدة تسعى لتطبيق أساليبها في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وأوكرانيا وغيرها على الصين، ولا شكّ أنّ هذا سوء تقدير كبير.
في اليوم ذاته أي في 26/2 بادرتنا أخبار الصباح باجتماع إسرائيلي-فلسطيني-مصري أردني في العقبة، وأنّ هذا الاجتماع قد تمّ وصفه من قبل المعنيين بأنه: “اجتماع أمني سياسي” وأن هدفه هو تخفيف الإجراءات الإسرائيلية الأمنية في الضفة، وخاصة أننا مقبلون على شهر رمضان وأن المصلّين سوف يحرصون على إقامة فرائضهم في الأماكن المقدّسة وأن تقوم الإدارة الإسرائيلية بلحظ ذلك والاهتمام به.
في هذه الأثناء قام مقاوم استشهادي في الحوارة بعملية فدائية تسبّبت في قتل مستوطنيْن وجرح آخرين، ليقول إن القضية في مكان آخر عمّا تفيض به قرائح هؤلاء المجتمعين والمتحدثين في الأمن والسياسة. القضية هي أن بيوت الفلسطينيين تهدم كل يوم وتقام مكانها بؤر استيطانية، وأن الأسرى الفلسطينيين يعانون من أبشع استعمار عنصري في التاريخ، وأن المستوطن الذي كان محكوماً بإثارة وممارسة العنصرية ودعم منظمة إرهابية قد أصبح وزيراً في حكومة نتنياهو، وأن محاولات تجري لتسليح الإسرائيليين ضد الفلسطينيين وإعطاء الأوامر بالقتل مباشرة وإعدام الأسرى والمقاومين الفلسطينيين ميدانياً.
وبعد ذلك قامت مظاهرة إسرائيلية أسماها رئيس وزراء العدو “بمثيري الشغب والفوضويين” بينما أطلقوا على أمثالهم في سوريا وإيران “مدافعين من أجل الحرية”، ودعست خيول الشراسة الصهيونية المتظاهرين الإسرائيليين بأقدامها لأن حكومة الإرهاب لا تفرّق بين شخص وآخر، فحكومة إرهابية سوف تمارس الإرهاب على الجميع من أجل إبقاء قبضتها على المقود.
وتنبّه جريدة الغارديان في مقال افتتاحي بتاريخ 1/3/: “أن الاتفاق الذي جرى هذا الأسبوع بين التحالف الحاكم ووزير المالية، والذي هو مستوطن أيضاً، تسلّم مسؤوليات واسعة عن المدنيين في مستوطنات الضفة الغربية. وهذا مهم جداً لأنه من المفترض أن الضفة الغربية تقع تحت إدارة عسكرية. لكنّ الاتفاق الجديد يشرعن وضع المستوطنين مع السلطات الإسرائيلية وسوف تتم معاملتهم وكأنهم مواطنون عاديون مع أن مجرّد حضورهم في أراضٍ محتلة يعتبر جريمة حرب. الجريدة الإسرائيلية هآرتس اعتبرت هذا الاتفاق تمييزاً عنصرياً كاملاً.
إنْ كان هذا يدلّ على شيء فإنه يدلّ على تحوّل قضية اغتصاب فلسطين إلى قضية يدير دفّتها الشعب الفلسطيني وقيادات المقاومة الحقيقية الرائدة التي تدعو إلى الخروج من أزمة الانقسامات والاتحاد في النضال ضدّ الاحتلال، كما يعني وعياً عالمياً بأن لغة التهدئة والاسترضاء والبحث المزيّف عن السلام والذي اكتشفنا زيفه الحقيقي منذ نهاية القرن الماضي لم تعد تنطلي على أحد.
وأن ما يُدعى بالوساطة الأميركية أو الضغوط الأميركية على الكيان الصهيوني ليس إلا وهماً يودّ العاجزون أن يتمسّكوا به لعدم وجود إرادة حقيقية لتحدّي العدوان والمعتدين، وأن التطبيع مع هذا الكيان في الوقت الذي ينهار به داخلياً ودولياً يشكّل محاولة إنقاذ لنظام عنصري انكشفت كلّ أساليبه العنصرية والإرهابية.
كما أن روسيا والصين اتخذتا موقفاً حاسماً ومبدئياً من مجريات الحرب في أوكرانيا ومن شدّ أزر التحالفات مع الدول التي تشاطرهما الرؤى أو بعضاً منها، فإن على الدول المؤمنة بالمقاومة أيضاً التوصّل إلى خطط استراتيجية لإعلاء الرؤى والأصوات المقاومة ليس في المنطقة فحسب وإنما في العالم أجمع. ويتطلّب هذا تغيير الأساليب التي درجنا عليها والتي لم تجدِ نفعاً في الماضي.
فالتركيز اليوم مثلاً على التفريق بين اليهودية والصهيونية أمر في غاية الأهمية وخاصة أن عدداً لا بأس به من اليهود لا يؤمنون بالصهيونية ولا بـ “دولة إسرائيل”، وخاصة أيضاً أن اليهود والمسلمين والمسيحيين كانوا يعيشون أخوة متعاونين متحابّين في المجتمعات العربية ومبدعين ومنتجين قبل زرع شوكة الكيان الصهيوني في قلب هذه المنطقة، وهي لا تدافع عن اليهود إلا كما تدافع المجتمعات الصناعية عن الشعوب الغربية.
في كلتا الحالتين فإن مستلمي مقود القيادة في الغرب وفي الكيان الصهيوني يستخدمون شعوبهم كوقود لمخطّطاتهم المالية والسلطوية. ولكن المنحى الذي تنحوه القيادات الروسية والصينية والهندية سوف يكشف أكثر وأكثر، حتى للشعوب الغربية نفسها، كذب الوهم الديمقراطي الذي يعيشونه والعبودية الحقيقية التي يرزحون تحت نيرها بأوهام ووعود كاذبة. كما أن نضال الشعب الفلسطيني البطل وكل مؤيّديه الأحرار سوف يكشف زيف هذا الكيان وكذب ادّعاءاته بالديمقراطية والإنسانية وأنه كيان عنصري إرهابي لا تعنيه الإنسانية بشيء.
في هذين الصراعين نحن على أبواب مرحلة مهمة وخطيرة ولكنها واعدة جداً. وبهمّة المؤمنين والمجاهدين سوف يتغيّر مستقبل البشرية إلى الأفضل، وما ذلك على الله بعزيز.