حين تكون اللغة وطناً
قالت الشابة العربية السمراء ذات العشرين ربيعاً وصاحبة العينين المتّقدتين اللتين تشعّان أملاً وتصميماً واعتزازاً بعروبتها: أنا أدرس في جامعة أجنبية اختصاصاً علمياً ولكني أكتب الشعر وتتحول المعاني إلى اللغة التي تنتمي إليها، فأرى أن هنالك معاني ومفاهيم ترسم ذاتها بحروف عربية وذلك لأنها لا تجد ما يمثلها ويعبّر عنها بأي لغة أخرى. وأسوق لكم مثالاً: «وطن»، هل يمكن لأحد أن يترجم لي كلمة «وطن»، وأن يغنّيَ لي «موطني» إلا بلغة الضاد؟ وهل تحمل أي كلمة في الوجود الشحنات العاطفية والتاريخية والثقافية التي تحملها لنا كلمة «وطن». حين أقول «وطني» أعني أمي وأبي وأختي وأخي وبيتنا الدافئ الحنون وشتاءنا الجميل ونحن ملتفون حول الموقد الحطبيّ نشوي الكستناء ونسيم قريتنا الذي يحمل على أجنحته روائح كلّ البساتين التي مرّ بها، وتربة بساتيننا الحمراء والسوداء الواعدة بمحصول وافر غزير، وسماءنا الممطرة والشمس تشعّ وقوس القزح في الأفق يذكّرنا بتدرّجات الألوان والأيام والأزمان.
كلّ هذا، قالت صغيرتي، قرّر العرب أن يتخلوا عنه وأن يلووا ألسنتهم بلغة أعجمية لا يتقنونها ولا يتمكنون من شحنها بمعانيهم وتاريخهم وحضارتهم، فلا هم امتلكوها ولا هي حنّت عليهم وعبّرت عنهم كجزء من تاريخها فضاعوا بين هذا وذاك. واللغة التي أضاعوا، أو يكادون، قد سببت انزلاقاتهم إلى أماكن ومواقف لا تحمد عقباها، فاللغة أداة تفكير، والتفكير أداة العمل والموقف، ودون لغة وتفكير ومواقف لا توجد كرامة ولا كيان لشعوب أو أمم.
وسألتني الشابة التي تنحدر من أسرة وطنية برهنت عن وطنيتها بالعمل والأداء وبناء الأوطان، أوليس معيباً أن يحضر ممثلون عرب من أكثر من ست دول عربية، وربما سبع، جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمساندة الكيان الصهيوني الغاصب، الذي اغتصب أرضهم وديارهم ومقدساتهم في فلسطين والجولان وجنوب لبنان، ولم يحضر سوى ثلاثين دولة سواهم من أصل مئة وثلاث وتسعين دولة؟! أولم يخجل ممثلو هذه البلدان أن يجلسوا خلف أسماء بلدانهم، يحاضر بهم برنار هنري ليفي الذي يفاخر بدوره في تدمير بلدان عربية، ويستمرّ دون كلل في محاولاته لتدمير أخرى؟ وأضافت: ماذا أقول لزميلاتي من بلدان رفضت حضور هذه الجلسة، بلدان غير عربية وبعيدة في الجغرافيا والتاريخ؟ بماذا أجيبهم عن حضور بلدان عربية جلسة لتأييد من يستهدفنا جميعاً، من يستهدف قدسنا وأقصانا وجولاننا وفلسطيننا وعروبتنا وبلداننا وهويتنا ووجودنا التاريخي والحضاري؟ إنه لأمر مخجل لنا نحن الشباب ومحيّر أيضاً إذ نرى أتباع لغة الضاد في ضياع مفهوماتي وسياسي وثقافي قلّما عانت منه أمة من الأمم.
اقترحت صغيرتي أن إعادة الاعتبار والاعتزاز بلغتنا وبأصالة عروبتنا وبالقواسم المشتركة التي تجمعنا قد تكون الخطوة الأولى على الطريق الصحيح، فاللغة ليست كلمات لقيطة أو عابرة، بل هي أداة تفكير وأداة تطوير العلوم والآداب والمعارف، وما لم تتمّ التفاتة حقيقية إلى إعادة مكانة هذه اللغة التي كرّمها اللـه عزّ وجل، فجعلها لغة القرآن الكريم، حيث قال تعالى: «إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون»، وكرّمنا بها نحن العرب، فإن الانفصام بين العرب وعزّتهم سيستمرّ في التصاعد. رأيتُ في عينيها وتوقدها القدرة على صياغة مستقبل أمّة بأسره. فهل نبدأ من البداية ونتجه إلى جيل الشباب ونضع معه النقاط على الحروف كي ينهض بواقع لغته وأمته ويرسم مستقبلاً يفاخر به أبناء الضاد ونقف صفاً واحداً في وجه من يستهدفهم ويغتصب أرضهم ومقدساتهم.
لا استحالة في ذلك وقلوب هؤلاء الشباب والشابات العرب تهفو إلى العزّة والكرامة وتحتاج فقط إلى من يرشدها إلى سواء السبيل.