قال للشرطي: “أرجو أن تفتح لي الطريق؛ لأنّي أحمل معونات عاجلة، وأريد أن أصل إلى حلب قبل الغروب”. ابتسم الشرطي وقال له: ” كل هذا الرتل من السيارات أمامك يحمل إغاثات، ومتجه إلى حلب واللاذقية وحماه وجبلة”.
قال محدثي: “كنت منهمكاً بترتيب كل ما جادت به الأيادي الخيّرة، وخلال لحظات، جمعوا من بيوتهم ما عجزت عن توضيبه ولكن، حين نظرت أمامي، ورأيت رتلاً لا متناهياً متجهاً إلى أهداف ونقاط عديدة، بعضها في دمشق، من مراكز تجميع المعونات، وبعضها في المناطق المنكوبة، بزغ ضوء جميل في داخلي، وهمسة في أذنيّ تقول: هل أيقنت الآن أن سوريا لا تُقهر، وهل أدركت اليوم سرّ استمرار هذا البلد لآلاف السنين، ومنذ بداية الحضارة الإنسانية؟ إنه العيش المشترك والتلاحم والتراحم بين أبنائه المؤمنين بإله واحد للبشرية جمعاء، وأن معيار الإيمان الحقيقي هو رأفة الإنسان بالإنسان والعمل الصالح وإغاثة الملهوف والمنكوب، لا يفرّق بينهم لا دين ولا عرق ولا طائفة، بل جميعهم على قلب رجل واحد”.
رغم قساوة العقوبات والإجراءات القسرية الأحادية الجانب الظالمة واللاقانونية واللاشرعية، والتي تسبّبت بقتل مئات الآلاف من السوريين، سواء خلال هذه الحرب الإرهابية المدمّرة، أو خلال هذه الكارثة الطبيعية، فإن السوريين اجترحوا من الصخر أدوات للبقاء، وهبّوا معتمدين على قواهم الذاتية، وعلى التبرّع ممّا يملكون، وممّا يقتنون أو يعتاشون عليه؛ لإنقاذ إخوانهم المنكوبين في حلب واللاذقية وجبلة وحماه. بالفعل، إن هبّة السوريين لإنقاذ إخوانهم المنكوبين تثلج الصدور، وتبرهن -للمرة الألف-أنّ سرّ استمرار هذا البلد وسرّ جماله، هو هذا العيش المشترك الحقيقي، وهذه اللحمة التي لا تنقطع أبداً بين أبنائه.
لقد كان منظر الأطفال وهم يحملون بعضاً من ثيابهم، ومنظر الأمهات يحملن ما تبقى في وعاء زيت أو زيتون، ومنظر الشاب الذي نظر حوله حين وصل مصادفة إلى مركز تبرع، ولم يجد بين يديه ما يتبرع به، فخلع معطفه في البرد القارس، وأضافه إلى الأغراض المتبرّع بها، كان هذا المنظر جديراً أن يتم تسطيره كملحمة يفخر بها السوريون، رغم كل المآسي التي تحيق بهم، والظلم الذي يُفرض عليهم من القوى الغربية الاستعمارية المعادية التي لا تعرف للإنسانية معنى، ولا للرحمة سبيلاً أبداً.
كل قرية، وكل حي في سوريا، تحوّل إلى ورشة عمل لإنقاذ إخوتنا المنكوبين، وفتحت الكنائس والجوامع أبوابها لجمع التبرّعات مهما كان نوعها، وفتح الناس قلوبهم وبيوتهم ليتشاطروا رغيف الخبز والمأوى وهم، للتوّ، يحاولون إنهاء آثار حرب إرهابية استنزفت مقدراتهم وطاقاتهم، ولكنّها لم تستنفد صبرهم الأبدي والتاريخي.
اليوم، أدركت لماذا شكلت سوريا ملجأً أبدياً للهاربين من المجازر والحروب والظلم عبر التاريخ؛ لأن أهلها يملكون في جيناتهم حبّ الخير للآخر، والنخوة والشهامة لإغاثة الملهوف والمحتاج، وهذا هو جوهر الديانات السماوية كلّها، وجوهر ما دعا إليه جميع الأنبياء والرسل؛ لأن إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج ورفع الظلم، أعلى درجات مساندة الإنسان لأخيه الإنسان.
وفي هذه الفاجعة أيضاً أدركت، ليس فقط سرّ استمرار سوريا لآلاف السنين، ولكن سرّ استهدافها المستمر والدائم من قبل الوحوش البشرية من قوى استعمارية وعملائهم، لما شهدنا بأعيننا وعايشنا الحرب الإرهابية التي فرضت علينا للأعوام الإثني عشر الماضية، سرّ هذا الاستهداف هو أن سوريا بشعبها وحضارتها وإرثها التاريخي وطريقة عيشها المشترك الجميل تشكّل تهديداً لكلّ البلاء الذي يحاولون فرضه على منطقتنا، والبلاء الأعظم الذي تحاول الليبرالية الجديدة فرضه على البشرية جمعاء.
ففي منطقتنا، زرع الغرب كياناً غريباً في جسد أمة عربية أكرمها الله بقرآن كريم، بلسان عربي مبين، وبنزول جميع الرسل بين ظهرانيها، فتميّزت بالمحبة والتسامح والعيش المشترك الجميل، فزرعوا هذا الكيان الاستيطاني العنصري المشبع بالكراهية والحقد والمتعطّش للدماء على أسس يدّعون أنها دينية، ولكنها لا تمتّ للدين بصلة، بل هي أسس عنصرية حاقدة تشوّه الطبيعة البشرية، وتسفك دماء البشر التي حرّم الله سفكها.
والدليل على ذلك أن أتباع هذه الديانة كانوا يعيشون بأمن وسلام في الدول العربية، وكانوا إخوة حقيقيين للمسلمين والمسيحيين، لا فرق بينهم أبداً في أي منحى من مناحي الحياة، وما زال كبار السن في دمشق يتذكرون جيرانهم وإخوانهم الذين قضوا معهم أجمل الأيام، قبل أن يتمّ ترحيلهم سياسياً في القرن الماضي، وبضغوط من خارج البلاد.
هذا العيش المشترك الجميل والأنموذج الناجح، الذي ضمّ بين ظهرانيه الصابئيين والكلدانيين والآشوريين والسريان والعرب، من كل الطوائف والمذاهب، لا يتناسب مع كيان يحاول أن يفرض أنموذجه العنصري في المنطقة، من خلال دعم توجهات عرقية أو إثنية، ومدّ كلّ العون لها لتشكّل كيانات هزيلة لا قيمة ولا وزن لها، وبهذا يتمكّن هذا الكيان، حسب أحلامه، من إحكام السيطرة على كل هذه الكيانات وتشغيلها بإمرته ولخدمة مصالحه وأهدافه.
الشعب العربي في كل أقطاره وخاصة في سوريا والعراق وريث حضارة إيبلا، وحضارة بلاد الرافدين، تلاقح وتعاون وتعايش، فبنى حضارات جميلة وقدّم للبشرية اختراعات أثرت لغاتها وعلومها وفنونها ومبتكراتها، وارتقت بالحياة الإنسانية إلى مستوى متقدم في معظم العلوم التي تمّ تطويرها في القرون الأخيرة.
لقد قدّم العرب فكراً متقدماً في الفلسفة والطب والرياضيات والكيمياء والفلك وغيرها شكّلت القاعدة الأساسية للتقدم الذي شهدته الدول الغربية في القرنين الأخيرين. ففي الوقت الذي حرقوا فيه كتب ابن رشد في إسبانيا، بحجة الإلحاد، شكّلت كتبه قاعدة معرفية للغربيين، وعكفوا على ترجمتها إلى اللاتينية واللغات الأوروبية، وإدخال أفكاره الملهمة في مراكز أبحاثهم ومناهجهم.
وهنا، يبرز السؤال الذي طالما سألني إياه مئات السوريين على مدى الأعوام الإثني عشر الماضية، وأصبح أكثر إلحاحاً عليهم بعد هذه الكارثة – الزلزال – الذي حلّ بنا، وتقصير الغرب المخزي في تقديم العون لإنقاذ أرواح تحت الأنقاض، والسؤال هو: لماذا كلّ هذا الحقد علينا، وعلى العراق طبعاً، حضارة بلاد الرافدين وما بين النهرين؟ ما الذي فعلناه حتى نستحق تجمع عشرات الدول الغربية لإرسال إرهابيين يدمرون بلدنا، ويذبحون شبابنا وأطفالنا ونساءنا؟ لقد كنا دائماً ملجأً للمعذبين والمهجرين والمظلومين، ويشهد تاريخنا أننا لم نبخل بتقديم كلّ العون لأي محتاج يصل إلينا، من أي مكان، ومن أي عرق أو دين أو لون؟
والجواب هو: أن كلّ هذا الحقد ليس عقوبة لذنب اقترفناه، ولكنه عقوبة على تميّزنا في كلّ ما قدّمناه في تاريخنا من إبداع وعلوم وحضارة، وعقوبة اليوم للأنموذج الجميل الذي تقدّمه سوريا بهذا الذوبان في بوتقة واحدة لا تفرّق بين الإنسان وأخيه؛ فهي في الجوهر إنسانية بحتة تضع حياة الإنسان وسعادته فوق كل شيء، وهذا بالذات جوهر الرسالة السماوية وخطاب الله عزّ وجل: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. والتُّقى بعد الإيمان بالله هو العمل الصالح، وأن يكون الإنسان أخاً حقيقياً لأخيه الإنسان؛ لأن الله لم يخاطبنا بدياناتنا بل بإنسانيتنا: “يا أيها الناس”.
وهذا المفهوم يتناقض تناقضاً كلياً مع المفاهيم التي يتبناها الغرب ويغرسها ويدافع عنها، وهي مفاهيم عنصرية عرقية بغيضة. واليوم، يبثُّ سمومه ضدّ المحبة والتآلف في الأسرة والمجتمع لتدمير المجتمعات البشرية.
ولكنّ سوريا التي استمرّت بعد أن اندحر كل أعدائها عبر التاريخ ستستمرّ بنشر مثلها المضيئة، وستنتصر وكل من معها من أنحاء العالم، بعد أن سقط الغرب سقوطاً مزرياً في هذه الكارثة الطبيعية التي حلّت بسوريا، فجلس يتفرّج ويشوّه الحقائق وينشر الأكاذيب تاركاً الأرواح البريئة تقضي تحت الركام، كما قضت على يد إرهابييه وأدواته في الحرب التي اخترعها على سوريا، وبعد أن برهن الغرب -للمرة الألف- ألّا إنسانية في قيمه وأهدافه، بل هي أهداف سياسية استعمارية عنصرية حاقدة يسخّر لها إعلاماً شريكاً في الفتنة، وعملاء من الخونة يروّجون لأهدافه الدنيئة.