سألتُ ضَيفَيَّ الأوروبيًّيْن اللَّذَين كانا يزوران سورية للمرة الأولى في حياتهما عن الفرق بين التصوّر الذي كان لديهما عن سورية والتصوّر الذي سيعودان به بعد قضاء عدّة أيام والتعرّف على مناحي الحياة السورية وأهلها، فأجاب أحدهما: إنّ أكثر ما فاجأنا هو مستوى الوعي لدى السوريين، وقدرتهم على فهم الأحداث وتحليلها، واستعدادهم للعمل الجادّ والنشط، ومهارتهم في تأدية واجباتهم المهنية والوطنية، وأيضاً تفاؤلهم رغم كلّ الظروف التي عايشوها في السنوات الأخيرة الماضية، والتي ما زالت تثقل كاهلهم. وسواء في التصوّر الذي يشكّلونه عن بعد عن بلدنا، وعن العرب عموماً، أو في التقييم الذي يحاولون التوصّل إليه، فإنّ الأوروبيين والغربيين عموماً يقعون تحت وطأة إرث استشراقي، وتعصّب عرقي للإرث الاستعماري الذي ألحق بصورة العرب أسوأ التشويه الذي تتناقله الأجيال الغربية في مدارسها وجامعاتها ودراساتها وثقافتها جيلاً بعد جيل، دون أن نشهد محاولات جادّة لتقويم هذا الإرث العنصري الذي ينطلق من تفوّق العرق الآري، ودون وضع الحقائق التي تتعلّق بتاريخ العرب وحضارتهم وإرثهم وواقعهم في مكانها الصحيح.
ورغم محاولات جادّة وهامة من قبل إدوارد سعيد (الاستشراق 1976) وجانيت أبولند (ما قبل الهيمنة الأوروبية 1991)، وآخرين، إلا أنّ المؤرّخين الغربيين عموماً احتفظوا بهذه الصورة النمطية للشرق في كتاباتهم ودراساتهم، والتي تصف الشرق بالاستبداد، وتنفي عنه أيّ صفة حضارية تقارب بأيّ وجه من الوجوه ما يدّعيه الغربيون لأنفسهم. وفي كلّ مرة يتمكن باحثون مثل مارينا داستو في كتابها ((الأرشيف المفقود: آثار دولة الخلافة في كنيس القاهرة)) من البرهان على إهمال الغربيين لكلّ الوثائق والأرشيف التي تناقض تعاميمهم وأحكامهم المجحفة، يتمّ إهمال مثل هذا العمل وتهميشه والاستمرار في الموقف الاستعلائي نفسه والذي يحاول إيهام الآخرين بتفوق الغربيين على العرب عموماً في كلّ مناحي الثقافة والسياسة والحياة.
وما أن تبدأ الحديث مع أيّ محاور غربي، مهما ادّعى المعرفة بمنطقتنا، إلا وتلمس فوراً سطحية طروحاته وتكرار أسئلته النمطية التي تعود للفترة الاستعمارية وما قبلها، وافتقاره إلى أدنى حدّ من حدود المعرفة المعاصرة بنا وبتاريخنا وحضارتنا وإرثنا المعرفي في مختلف المجالات. فمن ضمن ما حاول ضيوفي الغربيون الاستفسار عنه بشغف هو وضع الأقليات في سورية، وهو تعبير استشراقي لا علاقة له بواقعنا ونمط عيشنا، والحياة التي ألفناها منذ نعومة أظفارنا، فأجبتهم أننا اليوم في أيام تثبت أنّ ما تسمّونهم “الأقليات” هنا هم أناس من حضارة ممتدّة من أعماق التاريخ، يشتركون بطرائق العيش ويحترمون عقائدهم، والإيمان بالواحد الأحد، وها نحن هنا اليوم نحتفي جميعاً بعيد الفصح وعيد الفطر وعيد الجلاء وعيد الربيع وعيد السنة السورية كأسرة واحدة لا يسأل أحد سؤالاً عن هوية الآخر الطائفية أو المذهبية ، بل الجميع يقدّم ويتقبل التهاني بأعياد مشتركة وانتماء لوطن واحد وثقافة تجذّرت في عقولنا عبر تاريخ من العيش الجميل المشترك.
وحين سُئلت كيف صمدت سورية وصمد الناس بعد اثني عشر عاماً من حرب إرهابية تبعتها حرب اقتصادية صعبة قلت إننا نعود إلى النقطة ذاتها، ألا وهي هذا الوئام بين أبناء هذا الشعب والتراحم الذي قلّ نظيره بين أبنائه والذي لا يقيم وزناً أبداً لطائفة أو مذهب بل هي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان صافية وجلّية وجميلة.
والأجمل من ذلك هو أنني بعد مغادرة ضيوفي وتوجّهي إلى قريتي وبعض القرى المجاورة لزيارة الأقرباء والأصدقاء في قرى كانت خطّ تماس لسنوات عصيبة مع الإرهابيين المدرّبين والمموّلين بسخاء، والمسلّحين بكافة أنواع أسلحة العنف والتطرّف من قبل أجهزة المخابرات الغربية، ولكن أهلها بذلوا الدماء الغالية للحفاظ عليها، وتخليصها من دنس الإرهاب الظلامي المستورد من أقبية الإرث الاستعماري الغربي، فوجدت أنّ أهل هذه القرى قد تجاوزوا بتعاضدهم ومحبتهم وتراحمهم كلّ ما كنت أعرفه وما كنت أتوقع أن أراه. فأولاً ورغم الظروف المعيشية الصعبة جداً لديهم، لا شكّ أنّ أول جواب تتلقاه على سؤالك عن الأحوال هو: “الحمد لله، والفرج قريب بإذن الله”، ولا تسمع شكوى شخصية أبداً، وإذا اطّلعت على أحوال صعبة للبعض فأنت تطّلع من خلال حديث الآخرين عنهم أنهم في حال صعب، وليس من خلال حديثهم أبداً.
فصاحب الصيدلية في القرية يتفهم الوضع المعيشي الصعب للناس، ويقدّم الدواء للمحتاجين، ويسجّل ثمنه آملاً من الله أن يتمكنوا من إيفاء ثمنه في وقت قريب، وبعد فترة وكثرة المدينين يستقبل أشخاصاً آخرين يسألون عن أحوال الناس في القرية، فيقول الحمد لله، ولكنّ البعض لا يتمكن حتى من شراء الدواء الضروري، فيتكاتف المقتدرون نوعاً ما ويقومون بإيفاء ديون الناس، وإعلامهم ألّا ديون عليكم بعد اليوم، وأنه يمكنكم أن تطلبوا الأدوية التي تريدون. لا أحد هنا يحلم بامتلاك أبنية أو رصيد في البنك، ولكنّ الغالبية تحلم برصيد من عمل الخير وتكافل اجتماعي قلّ نظيره ينعكس راحةً وخيراً وسلاماً على الجميع.
في هذه المجتمعات الصغيرة المستقرّة على كتف الصحراء لا تسمع اللغو أبداً، ولكنك تسمع دائماً أسماء من هم بحاجة من محبيهم وأصدقائهم وأقربائهم وأسماء المقتدرين إلى حدّ ما والراغبين في تقديم المساعدة والتي تتمّ عن طريق طرف ثالث لكيلا يكون هناك حرج لأحد. وخلال هذه السنين العجاف عكف السوريون على مساعدة بعضهم البعض وتقديم العون دون أدنى تفكير بمناطقية أو مذهبية أو فروقات يتحدث عنها الأوروبيون، والتي تهمّهمم كثيراً لأنهم اتّبعوا سياسة فرّق تسد لاستعمار الشعوب وتحطيم دولها ووحدة شعوبها بهدف نهب ثرواتها، فهي العامل الأساس في خططهم ضدّ العرب، بينما لا يولها السوريون أيّ اهتمام أو انتباه على الإطلاق، إلا من المغفلين الذين ينساقون وراء الفكر الغربي الاستعماريّ، فالسوريون نبتوا على هذه الأرض بمحبة وتكافل وإيمان بالواحد الأحد، والعمل الصالح من الإنسان إلى أخيه الإنسان، وهذا في جوهر الامر هو سرّ صمود سورية واستمرار حضارتها آلاف السنين رغم كلّ الاستهدافات الخطيرة التي تمّ تدبيرها لها على مرّ العصور.
يقول قائل إنه من حسن الطالع أنّ كل من يأتي إلى سورية يتفاجأ من هول الفرق بين الصورة السلبية التي يحملها والصورة الأفضل حكماً التي يكتشفها، ولكن ورغم أنّ هذا قد يكون مريحاً إلى حدّ ما، إلا أننا يجب ألا ننتظر زيارات الآخرين كي يطّلعوا على الحقيقة. ومع أنّ المعركة ضدّ أفكار المستشرقين المعادية للعرب، والتي ما زال يروّج لها الإعلام الغربي ومن ورائه المخابرات الغربية، وكلّ التشويه الذي سطّروه وعمّموه وروّجوا له ليبرّروا حروبهم المتواصلة ضدّ العرب، ليست هذه المعركة سهلة على الإطلاق، ولكنها ضرورية جداً. فقد حان الوقت ومنذ زمن أن يتمّ تكريس الموارد ليس فقط لصناعة التاريخ والانتصار على الأعداء والمحتلّين، ولكن لاستكمال هذه المعركة من خلال تسطير التاريخ الحقيقي وإيصاله إلى الآخرين وبلغاتهم، وهو الذي يكتب لها البقاء في الإرث التاريخي. سرّ سورية أنها جميلة ومتكاتفة ومتضامنة بتضامن أهلها وتراحم أبنائها الفريد من نوعه، ولكن هذا يجب ألا يبقى سرّاً وحصراً على الذين يشهدوه بل أن يتمّ نشره ليصبح أنموذجاً للأخرين.