يبدو لي أن معظم السياسات المتبعة في عالمنا العربي هو سياسات إطفاء حرائق، فيما يخطّط عدونا، وفي كل المجالات، لعشرات السنين إلى الأمام، ويدرس كل ظاهرة أو تطوّر، ويضع السيناريوهات المختلفة لمواكبته.
وفي آخر إحداثيات هذا العدو الشرس، وهي إحداثية قديمة، ولكنه يجدّدها اليوم لتحقيق أهداف أبعد وأخطر، تركيزه على محاربة الانتماء، من خلال بتر أي منهاج يمكن أن يزرع في قلوب الأطفال ونفوسهم عشق أرضهم وحقوقهم واستعدادهم للتضحية حتى بأرواحهم في سبيلها.
ورغم السياسات التي مارسها، من اغتيال العلماء والمفكرين والفنانين والمناضلين الشرفاء على مساحة هذا الوطن العربي الكبير، وجد أن هذه الأمة ولّادة ولا تفتأ تلد مقاومين آخرين ومنتمين يحملون الراية التي سقطت من يد من تمّ اغتياله أو سجنه ويمضون بها بكل عزيمة وإيمان.
ولذلك، يركز هذا العدو اليوم على إلغاء سردية الإيمان بالأرض والتراب والحقوق وحق العودة، من خلال الهجمة المسعورة التي يشنّها من أجل “أسرلة” المناهج الفلسطينية في المدارس المقدسية وفي عموم فلسطين.
وقد كان اهتمام هذا العدو باللغة والمناهج واضحاً منذ “محادثات السلام” التي أجريت في تسعينيات القرن الماضي. حينها، حاول أن يثير إمكانية إدخال تغييرات في المناهج حتى قبل أن يصل إلى “اتفاق سلام”، الأمر الذي قوبل بالرفض التام.
واليوم، نلاحظ أن أول خطوة يخطوها العدو مع الدول المطبّعة هي إجراء تغيير في مناهجها، وقبول “دولة” الاحتلال في أذهان الناشئة، وإلغاء قضية فلسطين التاريخية من كتبهم، وحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلّة على أرضه، وحق عودة كل اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وهذا ما يعتبره أكبر إنجاز له، لأنه يقتلع شجرة الإيمان بالحقوق من جذورها في هذه الحالة، ويصبح الاستسلام الذي يسعى إلى إحرازه أمراً حاصلاً في النهاية.
لا شك في أن مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة واستعداد شبابه للشهادة في سبيل الحفاظ على كرامة الحق وأصحابه، واستعداد أسراه لخوض المعارك بأمعائهم الخاوية، وهم مكبلون بالأصفاد، لكسر إرادة الاحتلال الذي لم يتمكن من كسر إرادتهم، لا شك في أن هذه الحالات أذهلت مراكز أبحاثه وشغلتها لإيجاد طريقة تقنع المرأة التي تحتضن شجرة الزيتون في وجه الدبابة الإسرائيلية بألا تفكّر بهذا الأسلوب وهذه الطريقة، بل أن تفكّر كيف تعيش في ظل احتلال بغيض، وكيف تهادنه من أجل تأمين حياتها اليومية.
ولذلك، إن نتائج أبحاثهم اليوم تترجم إلى خطوات إكراهية يحاولون من خلالها فرض مناهجهم التعليمية على المدارس الفلسطينية، وإلغاء المناهج الفلسطينية التي تروي حقيقة تاريخ هذه الأرض وجغرافيتها، وتربي الأطفال على الإيمان بحقوقهم والدفاع عنها وبذل الغالي والرخيص في سبيل تثبيتها في أذهان الأجيال جيلاً بعد جيل، إلى أن يتمكنوا يوماً من انتزاعها من بين مخالب المعتدين والمحتلين والمستوطنين.
وقياساً على موضوع المناهج، نقول إن موضوع تشبّث البلدان العربية بلغتها العربية ومناهجها الدراسية القائمة على إظهار الحقوق وتدريسها للأجيال هو أمر بغاية الأهمية؛ فاللغة هوية، واللغة انتماء، واللغة قضية، واللغة كرامة، واللغة أداة فكر وأداة عمل وأداة إنتاج، فكيف يتخلّى قوم عن أداة تفكيرهم وإنتاجهم المعرفي؟ والأمر الآخر الذي نقيسه على قضية المناهج هو أن المقاومة يمكن أن تكون بأشكال وأساليب مختلفة، وأن تصل إلى العالمية بطريق أقصر وأنجع.
نقطة قوة العرب التاريخية تكمن في شعرهم وفلسفتهم ومعرفتهم وثقافتهم، والمطلوب اليوم هو أن نشحذ كل هذه الأدوات، وأن نوصل قضايانا إلى العالمية من خلال المسرح والغناء والفن والموسيقى وكل ألوان الثقافة. أليس من المعيب أن نستيقظ كل يوم على اسم شاب فلسطيني تعدمه قوات الاحتلال الإرهابية الإسرائيلية، وأن نرى صورة خليل عواودة يحارب بجسده النحيل أعتى قوة استيطانية في العالم، من دون أن نجعل من اسمه وأسماء زملائه الأسرى أيقونة لنضال الشعوب تتردد وتنتشر في جغرافيا هذا الكون وبكل اللغات على وجه المعمورة؟
إذا كان الفلسطينيون الذين يعانون من احتلال بغيض يجترحون الأدوات ويخترعون السبل للمحافظة على سردياتهم ولغتهم وثقافتهم المتمسكة بحقوقهم، فماذا نقول لدول عربية تدّعي أنها مستقلّة وتغيّر مناهجها طوعاً أو كرهاً، وتحذف منها ما يؤهلها لأن تكون أمينة على كرامة هذه الأمة وحقوقها ومستقبلها؟
لنلقِ نظرة على مسار كل من يرغب في البحث عن عمل في أي دولة أوروبية، وإن كان طبيباً أو مهندساً أو مبرمجاً مؤهلاً بأفضل المؤهلات العلمية، فلا بدّ له من أن يتقن لغة البلد الذي يرغب في العمل فيه قبل السماح له بدخوله، لأن اللغة ليست ترفاً، بل هي قيمة أساسية من قيم وجود الشعوب والدول. وقد صدق ابن خلدون حين قال: “إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”.
أدعو كل المفكّرين والكتّاب العرب إلى تناول موضوع المناهج والكتابة عنه ودعم المدارس الفلسطينية وأولياء الأمور في وقفتهم الصامدة للحفاظ على مناهجهم المعبرة عن تاريخهم وجغرافيتهم وطموحاتهم المستقبلية.
ولننتهز هذه الفرصة في الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه لنعيد الاعتبار للمدرسة والمدرّس، ولنعيد الاعتبار لأهمية إنشاء الفكر وصياغته؛ فهذا هو الفيصل الأساسي في تقدم أي دولة في العالم على مرّ العصور وارتقائها.
لدينا مخزون ثقافي وفكري وأدمغة برهنت قدرتها على مستوى العالم، وفي كل الاختصاصات. فلنُعِد الإيمان بهذه النخب، ولنستمر في تأهيل المناهج وتوفير الظروف التي تمكّن من الاستمرار في إنتاجها، لأنها الركيزة الأساسية للانتماء الذي يشكل الضمانة الحقيقية والأكيدة لاستعادة الحقوق والأرض والكرامة.