على قدر أهل العزم
مقارنة بسيطة بين مفردات ولهجة باراك أوباما وعباراته التي تحدّث بها عن روسيا منذ أيام في العاصمة الفلبينيّة مانيلا وبين اللغة والنبرة اللتين استخدمهما الرئيس أوباما نفسه بعد انفجار أحداث أوكرانيا واستعادة روسيا الاتحادية لجزيرة القرم، مقارنة بسيطة تُري أن شيئاً جوهريّاً قد تغيّر في العلاقات الروسيّة-الأميركيّة وعلى مستوى العالم أجمع.
لقد كانت شرارة انطلاق هذا التغيير الجوهري هي الفيتو المزدوج الذي أخذته روسيا والصين لأول مرّة في 4/11/2011 ضدّ مشروع قرار دول غربيّة جامحة للتدخل في سورية وخلق الفوضى فيها، كما فعلت في ليبيا من قبل وفي العراق قبل ذلك. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتصدى بها دول الشرق لدول الغرب وتحبط مشروع قرارها وأهدافها. ولا شكّ أن هذه الخطوة الإستراتيجية جداً نالت من البحث والتدقيق والتحليل الشيء الكثير من قِبَل الدولتين المعنيتين لأن التحدّي كان واضحاً ولأن مثل هذا التحدي مرشح إلى أن يسوق العلاقات الدولية في اتجاهات مجهولة. وتتالت الأحداث، وتابع الغرب تقديم مشروع القرارات على مدى ثلاث سنوات، وتابعت روسيا والصين استخدام حق النقض الفيتو ضدّ مشاريع القرارات هذه المتعلقة بسورية. وعلى المستوى الآخر وبعيداً عن أروقة الأمم المتحدة كانت هذه الدول الغربية، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ومن ورائها تركيا وقطر والسعودية مستمرة في دعم وتمويل وتسليح الإرهابيين المتدفقين إلى سورية عبر الحدود التركية. وترافق ذلك مع إعلانات تدريب «لمعارضة معتدلة» و«اجتماعات لائتلافات وأصدقاء» ليس لهم من الصداقة سوى الاسم في حين هم ينفثون سمومهم على كلّ بقعة من هذه الديار المقدسة. ووصل التحديّ الحقيقيّ، والمغلف بلغة أهدأ بكثير من الفعل، درجة إقدام الولايات المتحدة ومعها شركاؤها الغربيون والخليجيون إلى تشكيل ما سموه تحالفاً دوليّاً ضدّ الإرهاب دون دعوة موسكو أو بكين أو إيران إلى مثل هذا التحالف وحتى دون التنسيق مع الدولة المتضرّرة جداً من الإرهاب ألا وهي سورية. في هذه الأثناء كان الدبّ الروسي واثق الخطوة فهو لم يتخل يوماً عن عبارته «شركاؤنا الغربيون» حتى حين كان شركاؤه يهددونه بالعزلة ويفرضون عليه العقوبات وكأنه دولة صغيرة نامية. وكان معظم الأصدقاء يودّون لو أن الدبّ الروسي خرج عن طوره وأجاب على اللغة بمثيلتها. إلا أننا اليوم نكتشف أنه كان على حق فقد درس خطواته وهيأ نفسه وأخذ استعداداته لتحالف حقيقيّ فاعل وصادق ضدّ الإرهاب يوجه ضرباتٍ قاصمة للإرهاب من جهة، ويكشف زيف الإدعاء الغربيّ بأنه يحارب الإرهاب من جهة أخرى بالصورة والرقم والدليل القاطع.
وكانت أولى نتائج هذه الإستراتيجية الروسيّة الهادئة والفاعلة تحالفاً صميمياً وفاعلاً مع الجمهوريّة الإسلاميّة والإيرانيّة وجذب مصر وتحييد الأردن والإمارات، لا بل بعد أحداث باريس قرار فرنسي للتنسيق مع روسيا في محاربة الإرهاب. وها هو هولاند الذي سوف يزور موسكو ثمّ واشنطن يرسم خطاً جديداً أيضاً في العلاقات الأوروبيّة-الروسيّة ومنحى جديداً في العلاقات الدولية، إذ لم تعد واشنطن هي الوجهة الدوليّة الوحيدة للتشاور في القرارات الإستراتيجية التي تخصّ المنطقة والعالم، بل أصبحت موسكو أيضاً وجهة إجبارية لمن يريد أن يكون فاعلاً على مستوى الحدث، فعلاً لا قولاً.
ستكون زيارة الرئيس بوتين إلى طهران هذا الأسبوع ومن ثم زيارة هولاند إلى موسكو بعد أن بدأت باريس بالتعاون مع موسكو في محاربة الإرهاب، سيكون هذان الحدثان بمثابة إعلان أن القطب الروسي الجديد حاضر بقوّة على الساحة الدوليّة وأنه أصبح أمراً واقعاً مهما كانت الضجّة الإعلاميّة، التي تحاول واشنطن أن تثيرها لمصلحتها، صاخبة. وأما الزبد فيذهب جفاء. هل يمكن لنا أن نتخيل للحظات ما موقع روسيا اليوم لو أنها حاولت نيل رضا الغرب أو خضعت لابتزازه أو هادنت على مصالحها وموقعها ومواقفها من القضايا المطروحة على الساحة الدوليّة؟ هل يمكن لنا أن نتخيل ماذا كان حلّ بروسيا لو لم تكن لديها قيادة حازمة ذكية نشطة وإستراتيجية؟ هل كان أوباما سيجلس في أنطاليا كما جلس في قمة العشرين مع بوتين بلغة جسد تشير إلى الاحترام والإصغاء؟ وهل كان سيتحدث بعد أيام عدة في مانيلا عن أصدقائه الروس ومواقفهم البنّاءة والعلاقات الطيّبة بينهم؟ أم كان سيشدد العقوبات على روسيا ويزيد من تهديده لها؟ في كل القضايا، وفي كل الأزمان، وفي كل البلدان على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم.