قد يكون عصرنا الراهن الذي نمرّ فيه اليوم هو الأكثر سطحية وسرعة وفوضى في تداول المعلومة وعدم التدقيق بمنشئها وموجباتها ومنتهاها، وقد ساهمت التقنيات الجديدة بهذه السرعة والسطحية إذ كان من المفترض أن توفر وسائل التقانة الحديثة وقتاً في البحث والسعي حيث نشعر بارتقاء الجودة وغزارة الإنتاج ولكن الذي حدث هو العكس تماماً؛ فكلما ازدادت وسائل توفير الوقت كما يدّعون رأينا الوقت يتبخر بسرعة قياسية، وشهدنا تردياً في نوعية المنتج وخاصة في المجالين الفكري والسياسي والأخلاقي.
لا شك أنني لا أتحدث هنا عن الصناعة أو الزراعة أو الاقتصاد ولكنني أتحدث عن المشهد السياسي والإعلامي والفكري الذي نعيشه بخصوص مختلف المسائل الإقليمية والدولية؛ إذ ما إن يطلق تصريح ما في مكان ما ولغاية ما إلا وانتشر كالنار في الهشيم بغض النظر عن صدقيته ومصداقيته وعلاقته بالواقع المعيش. وتشكّل الحرب الإرهابية التي تمّ شنها على سورية حالة جديرة بالدراسة واستخلاص العبر للأجيال القادمة في هذا المجال بالذات؛ إذ بدأت كمرحلة من «الربيع العربي» الذي يشكّل أيضاً حالة تاريخية جديرة جداً بالمراجعة وفهم الأسباب والدوافع والطرق التي أنتجت هذه الحالة والتي أوصلت الشعوب إلى عكس المقاصد المعلنة منها. فالحرب على سورية أخذت في البداية أشكال تظاهرات ومطالب بتغيير قوانين ومواد في الدستور، وخرجت المظاهرات واستحدثت الفوضى في الشارع، ولعب الإعلام الغربي والخليجي تحديداً دوراً أساسياً في إثارة الشغب وتشويه الحقائق واختلاق الصور من مناسبات أخرى وإلصاقها بما سموه «حراكاً»، وتمّ تحريك الجامعة العربية ومجلس الأمن كي تواكب قراراتهما الخطوات المرسومة والمنفذة على الأرض وفي مناطق مختلفة من البلاد. وركّز هؤلاء منذ البداية على تشجيع الهجرة عبر تركيا لخلق حالة إنسانية اسمها «اللاجئون»، كما ركز الإرهابيون من إخوان الشياطين المدربين والمسلحين من المخابرات التركية على احتلال المعابر مع تركيا، وبذلك فتحوا مئات الكيلومترات من الحدود مع تركيا لتهريب الأسلحة إلى الإرهابيين حيث أصبحت تركيا المصدر الأساسي لاستقدام السلاح والإرهابيين من كل أنحاء العالم، وإيصالهم إلى مختلف المناطق في سورية وتزويدهم بالمال والسلاح والإعلام والدعم السياسي. وقد أكد خبراء أتراك في حينه أن الإرهابيين من منظمات مختلفة لهم مكاتب شبه علنية في إسطنبول وغازي عنتاب، وأن الطائرات تقلّهم من كلّ جهات الأرض إلى تركيا ومنها يعبرون إلى كل أنحاء سورية. وطبعاً على المستوى الإعلامي والسياسي كانت تركيا الملاذ الآمن لكلّ من أراد التواطؤ ضد سورية وتغذية عمليات النهب والتخريب والدمار التي نفذها الإرهابيون من الخونة والمرتزقة المتأسلمين ضد السوريين ومعاملهم ومؤسساتهم ومصادر رزقهم وفي كلّ أنحاء البلاد. وخلال هذا الزمن ومنذ اللحظة الأولى كان أردوغان هو العقل الإجرامي المدبّر لتفكيك المعامل في حلب ونقلها إلى تركيا ونهب الثروات من الآثار السورية وتجريفها وبيعها للعالم وسرقة النفط السوري واستهداف حلب العاصمة الصناعية لسورية ونهب منشآتها، وأيضاً إجبار السوريين على الهجرة قسراً إلى تركيا وخاصة الحرفيين والمهنيين والمهندسين والأطباء لنقل المهن التاريخية التي يتقنها أبناء سورية إلى الأراضي التركية. ولعب أردوغان خلال السنوات الأولى من الحرب دور الذي زار المنزل واطلع على محتوياته وامتلأت نفسه حسداً وغيظاً تحضيراً لسرقته بأي طريقة من الطرق. ومنذ ذلك التاريخ وهدف كل خطواته ومراوغاته وأكاذيبه وتصريحاته هو الطمع المستميت في الأرض السورية والعراقية على وجه الخصوص، ودغدغة الحلم العثماني له والذي لم يفارقه أبداً متخذاً من ثنائية العثمنة وتبعية الإخوان المسلمين المذلّة لأطماعه العنصرية حلماً يراوده على مستوى المنطقة والعالم، ومن هذا المنظور يمكن لنا أن نعيد قراءة كلّ لقاءاته في أستانا وسوتشي وكلّ اتفاقاته التي وقع عليها هو أو ممثلوه على أنها محاولات لإيهام العالم بأنه يؤمن بسيادة الجمهورية العربية السورية على أراضيها وينقضّ ليقضم ما يستطيع قضمه من هذه الأرض بذريعة أو بأخرى، ولكن الحقيقة الساكنة في عقله الملوث بالعنصرية التركية هي احتلال الأراضي العربية واستعادة الاحتلال التركي لها. ومنذ اليوم الأول في هذه اللقاءات لم تقبل وفود الجمهورية العربية السورية التعاطي أبداً مع العثمانيين الجدد باعتبارهم قوة احتلال أجنبية على أرضنا، وحاولت روسيا جاهدة دفعه لتطبيق اتفاق سوتشي الذي بموجبه يجب أن يفرّق أردوغان بين الإرهابيين وما أسماه المعارضة المعتدلة، ويجب فتح الطريقين M4 وM5 وتنفيذ بنود أخرى لتحرير الأراضي السورية من الإرهابيين إلا أنه كان يراوغ ويخادع لأن حقيقة الأمر أن هؤلاء الإرهابيين هم أدواته منذ اليوم الأول، وحين تعرضوا للهزيمة النكراء على يد الجيش العربي السوري زجّ أردوغان بقواته ومعداته في المعركة التي هي معركته منذ اليوم الأول ولكن بأدوات وغطاء من الخونة والمرتزقة والأجانب.
الجوهري في الموضوع هو أن مخطط أردوغان لا يتوقف هنا أبداً فهو يتحدث عن إدلب وكأنها ملك له ولإمبراطوريته ويهدد من يقوم بتحرير إدلب من الإرهاب، ويتناغم معه بومبيو وبعض أعضاء الناتو ولو على مستوى التصريحات. الخطير في الموضوع هو أن أردوغان يخطط لتتريك الوطن العربي برمته وأخونة أوروبا وآسيا ليصبح السلطان على إمبراطورية تركية مترامية الأطراف كما كان يطمح هتلر وغيره من الطغاة. ومن هنا يأتي قرار الرئيس الفرنسي ماكرون ألا يسمح أن تكون فرنسا مجالاً لتطبيق القوانين التركية أو الإمامة في الجوامع لمن لا يتقن الفرنسية قراءة صحيحة لخطط أردوغان الذي خصص ميزانيات هائلة لنشر فكر الإخوان المسلمين المعادي للقيم الوطنية والقومية في أوروبا وآسيا، وقد يكون كلام ماكرون هو الصحوة الأوروبية الأولى لخبث مخططات أردوغان وخطرها على المنطقة وأوروبا والعالم. وقد كان تصريح الجولاني النقطة الأخيرة التي أثبتت من دون أدنى شك أن أردوغان والإرهاب طرف واحد وأن الإرهاب هو أداته الأساسية لتحقيق أهدافه التي كانت مستترة والتي أصبحت اليوم واضحة للعيان
لقد كشفت معارك الجيش العربي السوري وتحرير حلب حقيقة أردوغان للعالم. فمع أن الناتو وبعض دوله يقدمون له بعض الوعود للمساعدة، إلا أنه لم يعد قادراً أبداً على لعب أوراق الكذب التي لعبها على مدى سنوات ليحاول كسب روسيا وأميركا وأوروبا وإيهام الجميع بقوته وقدرته على تحريك المشهد. إن أول انتصار لإدلب اليوم وحتى قبل تحريرها من دنس أردوغان وإرهابه هو أنها ساهمت في تعرية حقيقته للعالم، وبما أن الكذب كان أحد أدواته الأساسية؛ فإن انكشاف أكاذيبه لكلّ اللاعبين سيسهم بشكل كبير في إضعافه وإسقاطه من المعادلة في المستقبل القريب. لقد عمل على إيهام العالم بأنه السد الذي يمنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا واليوم تكتشف أوروبا أنه هو السبب الأساس وراء موجات اللاجئين وأنه يستخدمهم للابتزاز السياسي، وحاول إيهام الولايات المتحدة ودول الناتو بعلاقته الراسخة مع روسيا واليوم يكتشف الناتو أن روسيا كشفت كذبه وادعاءاته ونكوصه على الاتفاقات الموقعة من قبله، وحاول إيهام روسيا أنه عضو أساس في الناتو وبأنه مكسب كبير لها وعليها الحفاظ عليه، واليوم تكتشف روسيا أن أحداً في الناتو لن يقدم على تقديم الدعم الميداني له بل هم يطلقون التصريحات فقط والتي لا تكلفهم شيئاً سوى الحبر الذي كتبت به، وتصريح المتحدث باسم البنتاغون جوناثان هوفمان لا يحتاج إلى تعليق حيث قال: «نحن نشهد كيف تقترب روسيا وتركيا من نزاع أكبر حجماً في المنطقة. نأمل في أن يجد البلدان سبيلاً لتفادي ذلك.
لقد حاول أردوغان طوال هذه السنوات أن يلعب لعبة الحكم والخصم في آن، واليوم يتبين للجميع أنه خصم لدود للجميع وأنه ليس حكماً لأحد، وهذا يشكل النذر الأكيد بقرب نهاية دور أردوغان وإراحة المنطقة والعالم من مخططاته الشيطانية التي يرسمها له غروره ووهمه بأنه أذكى من الجميع، فقط ليكتشف قريباً أنه سيكون ضحية هذا الغرور على حين يسجل التاريخ حالة أخرى عابرة دفع صاحبها الثمن كلّه.