قرن الشرق
إذا كنتَ تشعر أنكَ غير قادر على تحديد الوجهة التي تتجه إليها الأمور في أي منطقة من العالم فلا تجزع، وإذا كنتَ حائراً حول ما يجري بين الولايات المتحدة وروسيا، وحول حقيقة الاتفاق من عدمه، وصدق النيات من عدمها، فلا تحسب أنك قليل خبرة في السياسة أو التحليل، وإذا كنتَ عاجزاً اليوم عن تحديد مواقف لاعبين إقليميين وعلاقاتهم باللاعبين الدوليين في الشأن السوري فلا تتوهم أنك مقصّر في دراستك للموضوع أو تأملاتك في تفاصيله أو معرفتك بالشأن الإقليمي والدوليّ. ذلك لأن المرحلة التي يمرّ بها عالم اليوم مرحلة صعبة ومعقّدة وشائكة ومن حقّ القرّاء أو المشاهدين أو المتابعين، أو حتى المتضررين، أن يولّوا مدبرين ومشفقين من تداخل الأمور وتعقيداتها. علّ أول فكرة قد تدعوك إلى الراحة قليلاً هي أننا جميعاً، وأنّ عالم اليوم برمته، هو في وسط مرحلة انتقالية بدأت بوادرها ومؤشراتها ولكن من الصعب التكهّن بمسار تطوراتها القادمة، ومن الأصعب طبعاً توقّع ما سوف تؤول إليه الأمور وأين سيكون مستقرّها ومنتهاها. ولكن واعتماداً على معرفتنا بما مضى من أحداث خلال القرن الماضي، ومن خلال استخدام المقارنة بين نتائج أحداث مضت ونتائج أحداث ما زالت في أوجها على الأرض قد نتمكن من فكفكة بعض الألغاز وعزل بعض الشوائب عن جوهر الأحداث التي ستكون الحاسمة والفاصلة في تقرير المنتهى وولادة الشكل الجديد لعالم الغد.
ولا أعتقد أننا نختلف عزيزي القارئ في اعتبار الحرب الدائرة ضدّ سورية وعلى أرضها الطاهرة عاملاً حيوياً في تقرير هذا المنتهى وهذا الشكل الجديد لعالم الغد. وفي هذا الصدد هناك بيادر من تخرّصات إعلاميّة تنشر بذورها باستخفاف شديد، أو بقصد خلق هذا التشويش الذي نعاني منه جميعاً، والذي يشكّل سديماً كثيفاً يحجب شمس الحقيقة عن أعيننا جميعاً. في الموضوع السوري لا بدّ لنا أن نستذكر التقوّلات منذ خمس سنوات ونيّف بوصف ما يجري على الأرض السورية «بالثورة» التي تطوّرت إلى أن توصف «بالحرب الأهلية» وجميعنا يعلم سيل الاتهامات التي أطلقت بخفّة أو عن سابق عمد وإصرار. المفاجئ منذ أيام أن وزير خارجية بريطانيا، الدولة المحرّضة والداعمة «للثورة منذ البداية» بوريس جونسون يقول: «إن الحرب في سورية ليست أهلية بل يشارك فيها أطراف مختلفة ينبغي أن تتوصل إلى وقف لإطلاق النار» ومن موسكو يعلن نائب المستشارة الألمانية وزير الاقتصاد زيغمار غابرييل أن ألمانيا وروسيا متفقتان على أهمية حماية قوافل المساعدات الإنسانية في سورية ولكنّ الولايات المتحدة غير جاهزة لمثل هذا الأمر وأضاف غابرييل أن ذلك أحد أهم الأولويات ولكن الأميركيين غير جاهزين لفعله أو على الأقل في الوقت الراهن.
ولكنّ الصارخ أكثر بما لا يُقاس عزيزي القارئ هو هذا التباين الواضح بين تصريحات رئيس الولايات المتحدة الأميركية من جهة وتصريحات رئيس أركانه ووزير دفاعه من جهة أخرى. إذ قال أوباما في مقابلة نشرتها مجلة «فانيتي فير» الخميس: «إن معرفة أن مئات آلاف الأشخاص قتلوا والملايين نزحوا، كل ذلك يحملني على التساؤل حول ما كان بوسعي أن أفعله بصورة مغايرة خلال السنوات الخمس أو الست الماضية» ويضيف: «أتساءل عمّا إذا كانت هناك مبادرة لم تخطر لنا؟ لو كان هناك تحرك غير الوسائل التي عرضت عليّ لكان تشرشل أو إيزنهاور تصوره» قد يكون جزءاً من الجواب على تساؤل أوباما متضمّناً في الموقف الذي عبّر عنه رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، جوزيف دانفورد في كلمة ألقاها أمام أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي في اليوم ذاته الذي ظهرت به مقابلة أوباما أي يوم الخميس 22/9 إذ أكد معارضة البنتاغون لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول الأوضاع في سورية مع الجانب الروسي وقال دانفورد: «لا أعتبر تبادل المعلومات الاستخباراتية مع روسيا فكرة جيدة» ويتفق دانفورد وآشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي، على تسليح أكراد سورية وعلى دعم الأتراك! «ولذلك ثمة خيط رفيع بين الطرفين» يقول دانفورد «فنحن نعمل مع الأتراك لنصل إلى نهج صحيح نستطيع من خلاله أن نجري عمليات في الرقة».
والقائمة تطول حول التناقض الواضح بين ما يرغب أوباما أن يقوم به وبين توجّه البنتاغون حتى مع حلفائهم الإقليميين. وعلّ هؤلاء الحلفاء يسمعون رأياً مختلفاً من جهات أميركية مختلفة تتعامل مع الحرب الدائرة على سورية. قراءة تصريحات أوباما وكيري والبنتاغون ومقارنة ما يسعون إلى تحقيقه لا تدع مجالاً للشكّ أن المشكلة الأساسية في تنفيذ الاتفاق الروسي الأميركي وفي معالجة ملفات اليمن وليبيا والعراق وسورية تكمن في عجز الولايات المتحدة عن التوصل إلى رؤية مشتركة واحدة واتخاذ قرار واحد والعمل على تنفيذه مع القوة الصاعدة في العالم، روسيا. إن المقارنة المتمعّنة بين ما يصدر عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية بشأن سورية من جهة، وما يصدر عن روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا من جهة أخرى تُري أن القوّة التي كانت وحيدة ومهيمنة على العالم تعاني ضعفاً وانحداراً وأنّ قوّة الشرق صاعدة نحو الشمس ربما ببطء ولكن بخطا ثابتة وأكيدة ومتتابعة.
هل علمت عزيزي القارئ لماذا يصعب علينا اليوم أن نصل إلى حقائق ثابتة؟ لأن العالم متحرك ولأن الركائز التي ارتكز عليها إلى حدّ اليوم في حالة تبدّل جوهري، وإن لم يكن ملموساً إلى حدّ الآن. ولن يمضي عقد من الزمن حتى تصل أنت ونحن جميعاً إلى يقين أن القرن الحادي والعشرين هو قرن أفول الغرب وصعود الشرق، وفي هذا الصدد يبزغ الأمل في صدورنا جميعاً لأن الشمس دائماً تشرق من الشرق!!!