ليس خبراً عابراً
علّ أحد أهم الدورس التي تعلمناها خلال هذه الحرب على سورية، هو دور الإعلام في عرض الأخبار، وإدارة المعارك على الشاشات بعيداً عن الواقع، بهدف التأثير في نفوس وعقول البشر سلباً أو إيجاباً. فقد تمّ اعتماد إستراتيجيات وخطط إعلامية، ووضعت لها ميزانيات سخية، وخطط تنفيذية مدروسة، ومتابعة من خبراء ومختصين. واكتشفنا بعد معاناة وألم وتضحيات أن فكرة الإعلام الحرّ ما هي إلا وهمٌ يقطن أذهان المستهدَفين منه فقط، أما القائمون على إنشاء وسائل الإعلام وتمويلها وتنفيذها فهم يتقنون استخدامها كأداة من أدواتهم في السيطرة على البشر والحجر، ونهب الشعوب، وشن الحروب عليها باستخدام المرتزقة والخونة والعملاء. وعلّ المطلوب اليوم هو وقفة جريئة لإعادة النظر في كلّ حساباتنا ومفاهيمنا بعد أن تمكّن المقاومون والمجاهدون الصابرون من تغيير الواقع الميداني بشكل شبه جذري. المفارقة اليوم هي أن الموقف من الأخبار وطريقة التعامل معها ما زالت تنتمي إلى مرحلة ما قبل الحرب، وكأن الدروس التي تعلمناها خلال الحرب قد أُفُلت مع أفولِها.
ذلك لأن المفروض اليوم هو أن هذه الانتصارات الميدانيّة لأصحاب الأرض والحقّ وهذه الهزيمة الساحقة للإرهابيين وكلّ من يقف وراءهم، من المفروض أن تُحدث هذه الانتصارات مراجعة عميقة وشاملة لطريقة تعاملنا مع الخبر؛ أي خبر له علاقة بوجودنا ومصيرنا ومعاركنا المستمرة من أجل البقاء والاستمرار على أرضنا. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ظهرت أخبار مؤكدة قُبيل وخلال معارك تحرير دير الزور وخاصة بعد الانتصار في تحرير القلمون وهزيمة الإرهابيين كلياً هناك، ظهرت أخبار بأن حوامات أميركية تلتقط قادة الإرهابيين من مناطق مختلفة على الأرض السورية لتنقذهم من القتل أو الأسر، وأن التعليمات قد صدرت لأعداد منهم أن يتجمعوا في مناطق معينة من أجل تسهيل عملية إنقاذهم ونقلهم في الهيلوكبترات الأميركية إلى مأمنهم، ومرّ هذا الخبر مروراً عابراً في الأخبار من دون أن يتم التوقف عنده ملياً كما يجب، والبحث في أهميته والبناء عليه في تحليل أحداث الماضي ومحاولة استشراف آفاق المستقبل. بل إن مثل هذا الخبر لم يغيّر حتى من طبيعة الأسئلة الساذجة التي يتم طرحها أحياناً متى تبدأ المعركة الكبرى باتجاه العدو الصهيوني، ومتى ستردّون على اعتداءات وضربات إسرائيل على أرضكم؟ مثل هذا الخبر عن إنقاذ قادة داعش يجب أن يطرح تساؤلات عديدة ويجيب في الوقت ذاته عن أسئلة عدّة كانت تفرض نفسها طوال هذه الحرب. من ضمن هذه الأسئلة ما الجهة أو الجهات التي خطّطت لكلّ هذه الحرب الإجرامية التي شنّت علينا؟ ومن الذين يقودون فعلاً كلّ هذه المعارك والجرائم الإرهابية على امتداد الأرض السورية؟ أما الرعاع المنفذون فهم حطب حرب من المرتزقة، وهم من حثالات الأرض التي لفظتها المجتمعات والحياة الطبيعية في أكثر من مكان، فوجدت في العمل المرتزق منفذاً لها.
لقد برهنت عمليات إنقاذ قادة الإرهابيين أن هؤلاء القادة المجرمين معروفون لدى السيّد الأميركي ولا شك أن الكيان الصهيوني ضليع في انتقائهم وتدريبهم ومتابعة إجرامهم أو هم من ضباطه المستعربين، ولذلك لا يجوز اليوم السؤال متى ستكون المعركة ضد العدو الصهيوني لأن كلّ هذه المعارك هي ضدّ العدو الصهيوني وضدّ خططه ومشاريعه في المنطقة وكلّ هذه الانتصارات اليوم من حلب، إلى القلمون، إلى دير الزور هي انتصارات على العدوّ الصهيوني الذي خطّط شن هذه الحرب الإرهابية بهدف زرع أدواته في سورية ولبنان والعراق من أجل استكمال مشروع إسرائيل الكبرى. والقراءة الثانية أو المكمّلة لعملية الإنقاد هذه هي أننا يجب أن ننتظر أين ستظهر مشاريعهم الداعشية المستقبلية وأين سوف يتم استخدام قادة الإرهاب هؤلاء لمحاولة تطويع شعب، أو بلد، ونهب ثروات شعب آخر، أو زعزعة استقرار ثالث، يقف في طريق فرض هيمنتهم على بقع جغرافية مختلفة، فهل سيتم نقل بعض هؤلاء القادة إلى الفيلبين أو ميانمار أو ليبيا أو سيناء أو اليمن أو الاحتفاظ بالبعض في أوروبا من أجل حدث هنا وآخر هناك يخدم أهدافاً سياسية أكبر أو أن يحتفظ بهم الأميركان في المستودع الأفغاني لحين الطلب؟.
وبالقياس على هذه الجزئية من أخبار الحرب في سورية يمكن لنا أن نقرأ أيضاً الخطط الأميركية المتعلقة «بقوات سورية الديمقراطية» وكيف تمكّنوا من تحريك هذه القوات عبر مناطق كانت تعتبر حصناً منيعاً لداعش من دون أن يتم إطلاق طلقة واحدة، تماماً كما تم استلام البيشمركة سنجار وتلعفر في العراق من داعش من دون معارك أو إطلاق نار، بل من خلال اختفاء الدواعش وعدم إيجاد أثر لهم بعد إعلان بدء المعارك، كذلك تماماً حصل في مرقده ومناطق أخرى من محافظة دير الزور منذ أيام. ومثل هذه الأخبار ليست أخباراً عادية بل هي أحداث سياسية وعسكرية وتاريخية تتم عبر خطط ولا بد من فهم مدلولاتها والبناء على هذه المدلولات. ففي هذه الحال نكتشف أن الدواعش و«قوات سورية الديقراطية» مجرّد مرتزقة يتحركون بأوامر أميركية ويتجهون حيث يُؤمرون، وهذا يعني أن المشاريع التي يطرحها اليوم هذا الفريق أو ذاك من فدرلة إلى تقسيم إلى كيان إثني هي مشاريع يُخطّط لها وُيشرف على تنفيذها السيد الأميركي بهدف إضعاف سورية خدمة لإسرائيل ولا يشفع لها أنه اختار أدواته من أبناء جلدتنا أو ممن يدعون الحق في التصرف في التاريخ والجغرافيا لأنهم يعيشون في المكان.
القراءة المعمّقة لهذه الأخبار والأحداث، تمنحنا صفاء في الرؤية وثباتاً في الرأي وقناعة راسخة بالسير في الوجهة التي تقوّض مخططات أعدائنا والطامعين في أرضنا وثرواتنا بغض النظر عن تشكيلة أدواتهم، أو أسماء عصاباتهم الإرهابية، إلى أن تبسط الدولة إرادتها وسلطتها على كامل ترابها المستقل، وتتعاون بكلّ حرية وجرأة مع كل من يشترك معها في الثوابت والأهداف من أشقاء وأصدقاء وحلفاء، وبهذا ندفن وإلى الأبد أبواق من يستهدفُنا، ونلغي وجودها وتأثيرها في معاركنا القادمة.