يقول المثل العربي: «ما أكثر العِبَر وما اقلّ الاعتبار»؛ ذلك لأن الاعتبار يعني التفكّر في العبر وفهم المغزى الحقيقي لها والتصرف على أساس الدروس المستقاة منها، ونحن نجد اليوم عبراً لا تحصى في التجربة الإنسانية بكل أشكالها وتجلّياتها ولكن الاستفادة من هذه العبر محدودة أحياناً وتكاد تكون معدومة أحياناً أخرى. والمثال الأكبر والأهم والذي يشغل بال البشرية اليوم هو فيروس كورونا الذي صدف أن بدأ انتشاره في جمهورية الصين الشعبية وظنّ الآخرون أنهم في منأى عن هذا الخطر نتيجة البعد الجغرافي واختلاف العرق وأخذوا يطلقون نظريات لا علاقة لها بالعبر التي يجب أن تكون مستمدة من هذه الحال إلى أن بدأ بالانتشار في كلّ أنحاء المعمورة تقريباً وإن يكن بدرجات متفاوتة وبتفاوت أكبر في الاستعداد والتصدّي له.
والعبرة الأولى التي يجب أن يتعلمها الإنسان من هذه الكارثة الكونية هي أننا جميعاً مؤتمنون على سلامة هذا الكون وأن البشرية في قارب واحد وأن ما يؤذي أهلنا في الصين سيلحق الأذى بنا عاجلاً أو آجلاً، ولذلك علينا أن نعمل وفق الآية الكريمة «وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان». ولكنّ القوى التي تعتبر نفسها فوق كلّ قانون وفوق الجنس البشري بدرجة، مع أنها منه، مازالت سائرة في الطريق الذي أوصل الجميع إلى هذه الحال التي لا يحسد عليها أحد، وما زالت تتبنى العقوبات والحظر والإرهاب والحرب والمنع والترهيب أسلوباً للتعامل مع الدول والمجتمعات البشرية خارج إطار حدودها ولم تفهم إلى حدّ الآن أن ارتدادات عقوباتها تصل إليها بطريقة أو بأخرى.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد استخدمت هذه الدول على مدى سنوات الإعلام المضلّل لتشويه صور الآخرين وإرسال أنباء مزيفة عمّا يجري على أرضهم وإقناع العالم أن هؤلاء يستحقون القدر الذي حلّ بهم والعقوبات التي تفرضها القوى الغربية أو المنظمات الدولية المؤتمرة بأمر هذه القوى أصلاً. واليوم وفي محاولة التصدي لفايروس كورونا نجد أن هذه الدول الغربية ذاتها وحكامها هم ضحايا إعلامهم المضلّل، الذي أضلّ بهم الطريق حتى عن قدراتهم وإمكاناتهم لمواجهة مثل هذه الكارثة التي تنتشر أذرعها الأخطبوطية إلى الجميع اليوم؛ ففي الوقت الذي كان يعتقد معظم الناس في هذه الدول وربما حكامها أيضاً وفي الدول التي مازالت تدور في فلكها بأنها تمتلك نظاماً ومؤسسات صحية وأساليب عمل قادرة على مواجهة أي خطر يعترض أسلوب حياتها، فوجئ الجميع بأن هذا التصوّر هو نوع من الوهم الذي لا يحاكيه الواقع أبداً وأن المؤسسات الصحية والقدرات الاحتياطية الموجودة لديها لمواجهة كارثة ما هي إلا قدرات ضعيفة ولا يمكن لها مواجهة هذه الكارثة التي تحلّ بالبلاد.
وفي الوقت الذي كان هذا الإعلام ذاته يبثّ الشعور بالتفوّق على الشرق والعالم برمّته اضطر بعد أن عايش أداء الصين المتميّز في التصدّي لهذا الوباء أن يعترف أن الصين مثال يحتذى وأن خير ما يمكن أن يقوم به أي بلد هو أن يستفيد من تجربة الصين في مواجهة هذا الوباء، ولحسن الحظ فإنّ الصين تصرفت بكِبَر وبدأت بإرسال مساعداتها وعرض الإفادة من خبرتها وأسلوب معالجتها لكل الراغبين في الاستفادة منها. ولكنّ الغريب في الأمر هو أنه وبالرغم من أن العبرة من هذه الكارثة البشرية واضحة للعيان فإن الولايات المتحدة مازالت منشغلة بفرض عقوبات على إيران وروسيا وسورية، ومازال معاون وزير خارجيتها يستقبل الرأس المدبّر لإرهابيي الخوذ البيضاء، ومازال مسؤولوها يتحدثون بلغة تجافي الأدب والمنطق والواقع أيضاً عن «الفيروس الصيني» إمعاناً منهم في محاولة تشويه صورة الصين التي برهنت للعالم برمته أن أنظمتها التقنية والسياسية والتنظيمية وأخلاقها المجتمعية جديرة بالفعل لأن تكون أنموذجاً للعالم برمته. فقد دعت الصين إلى رفع العقوبات عن إيران من أجل مساعدتها لمكافحة فايروس كورونا وهذا أول درس يجب أن يكون قد توصل إليه الجميع من هذه الكارثة. وهذا هو الدرس المنطقي والإنساني والمعقول لمصلحة البشرية إذا كنا نؤمن فعلاً، أو توصلنا إلى الإيمان، بأن البشرية في قارب واحد وأن ما يصيب البعض يصيب الكل في النهاية. في هذه الحال كما في أحوال شتّى وعلى مدى عقود برهنت النخب الرأسمالية الحاكمة في الغرب أنها تصمُّ آذانها وتغمض عينيها عن واقع وصل إلى عقر دارها، وعن ناقوس خطر يكاد صوته يصمّ سمع البشرية وذلك في محاولة ومكابرة منها لتبقي هيمنتها على العالم رغم ترهل أدوات قيادتها ورغم ظهور قيادات أكثر قدرة وحكمة على قيادة السفينة البشرية التي ننتمي لها جميعاً. ولكنّ هذه المكابرة، التي يعتبر الإعلام المضلّل أحد أهم أدواتها، لن تجدي نفعاً أبداً بعد اليوم ولا حتى على المدى القصير لأنّ الضرر وصل إلى الجميع ولابدّ لهم من مواجهته وبعد ذلك التعّرف إلى أسبابه ومحاولة معالجتها. مازالت الدول الغربية في سباق من أجل مصادر الثروة وطباعة الدولار والسيطرة الكاملة على منابع النفط في العالم ولا تريد أن ترى أن مقوّمات القوة لا تعتمد على الثروة المادية وحدها بل تعتمد على العلم والمعرفة والأخلاق أيضاً؛ «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». وهذا ليس شعاراً وليس ترفاً وإنما حقيقة واقعة نلمسها عبر التاريخ.
اليوم يكتشف مواطنو الدول الغربية أن الشعور بالقوة والتقدّم والحضارة لا يرتكز على حرص عميق على الإنسان بل يرتكز على الثروة المادية فقط التي تمتلكها نسبة ضئيلة جداً من مواطني هذه الدول.
السؤال اليوم: هل سيسجل التاريخ أن الحرب الكونية لمكافحة كورونا كانت أهم من الحرب العالمية الثانية في فرز القوى المؤهلة لقيادة العالم في المستقبل؟ وهل سيتمخّض العمل ضد هذا الفايروس عن قيم سياسية واجتماعية ونظم مختلفة تماماً عمّا عهدناه قبل كورونا؟ وهل سيصبح من الصعب بعد كورونا أن يلعب الإعلام المضلّل لعبته لأن الناس قد اكتشفت من خلال خطر الموت حقيقة الأمور ولا يمكن لأي قوة دعائية أن تعلّم الإنسان أكثر مما تعلمه من التهديد المباشر لحياته ووجوده؟ هل سيتذكر العالم تجربة كورونا بعد الانتهاء منها بأنها كانت الحدّ الفاصل الذي سقط بعده النظام الرأسمالي في الامتحان الأهم، وبرهن النظام الاشتراكي أنه الأجدر والأقدر على قيادة البشر لما فيه خيرهم وصحتهم وأمنهم وأمانهم؟ لا شك أن الإمبراطوريات لا تسقط بين عشية وضحاها وأنها تستغرق وقتاً ولكنّ هذا المفصل في مواجهة هذه المعضلة الصحية يبدو لي مفصلاً دقيقاً ومهماً جداً في تاريخ النظم السياسية وتقييمها وقدرتها على البقاء والمنافسة، وهل هذا يعني أن العالم سيشهد بعد كورونا تغييراً جذرياً في النظم والشرعة الدولية التي نظمت العلاقات بين الدول منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم؟
لقد شهد العقد المنصرم الذي نعيش عامه الأخير هذا العام استهتاراً متزايداً من الغرب بالشرعية الدولية وحقوق الإنسان وسيادة الدول، وشهد تجبّراً من الدولة الأقوى عسكرياً، وتدخّلاً من هذه الدولة وحلفائها وعملائها في الشؤون الداخلية للبلدان المستقلة، وطمساً للهويات وحقوق السكان الأصليين لا يمكن وصفه إلا بشريعة الغاب، كما شهد انتهاكاً للبيئة والمناخ والجغرافيا والتاريخ وكلّ ما منحنا الله إياه على هذه الأرض من ثروات طبيعية وتبدّل جميل في الفصول واختلاف في البيئة والجغرافية ما سبب احتباساً حرارياً وفيضانات وجفافاً وكوارث طبيعية لم يشهدها الإنسان من قبل. واليوم علّ هذه الكارثة التي حلّت بالبشرية من خلال فيروس لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة ويشكّل هذا التهديد الخطير للحياة البشرية برمتها؛ علّ هذه الكارثة تدفع البعض إلى التواضع وتخفّف من عوامل تجبّرهم واستكبارهم وجبروتهم على حيوات ومقدرات الآخرين، وعلّها أيضاً تدفع الإنسان للعودة إلى الأصول والاهتمام بالأرض والبيئة والمناخ والحضارة والتاريخ وإعادة الاعتبار للقيم الإيجابية المتوارثة من الآباء والأجداد والمبادئ الدينية الداعية إلى المحبة والسلام بعيداً عن العنصرية والاستكبار.
علّ هذا الفايروس يذكّر البعض بوهن الإنسان وضعفه أمام خطر من فايروس لا يُرى بالعين المجردة ويدفع هذا الإنسان إلى التخلّي عن سياسة العقوبات والاستهداف النابعة من التجبّر والاستكبار والعودة إلى التواضع والتفاهم والتصرّف كأعضاء في أسرة إنسانية واحدة والتي هي في الواقع جسد واحد إذا أصيب منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر.