ما الحلول؟
حيثما توجّهت اليوم في سورية، أو ليبيا، أو العراق، أو اليمن، أو لبنان، يواجهك أحد ما بالسؤال: متى تنتهي هذه الأزمة؟ ومتى تعود الحياة إلى طبيعتها؟ ومتى نعود إلى أسلوب عيشنا المعهود وحياتنا الآمنة؟
من المفهوم أن جميع البشر يرغبون في العودة إلى ما اعتادوه، وخاصة إذا كان حافلاً بالأمن والأمان والحياة اليسيرة المُطمئنّة، ولكنّ حقيقة الأمر هي أن الحروب الغربية التي تم شنّها على بلداننا، ومنها الحرب الإرهابية العالمية الأخيرة والتداعيات الإقليمية والعالمية المرافقة لها، تبرهن يوماً بعد آخر أننا في عالم انتقالي، ومرحلة تاريخية وسيطة تتصارع فيها القيم والمشاريع بغية التوصل إلى شكل مختلف للعالم، وربما ستظهر قيم وتوجّهات غير مألوفة لمن عاش قبل وخلال هذه الحروب. ومن الواضح اليوم أن الحرب الإرهابية الأخيرة التي أطلقوا عليها اسم «الربيع العربي» قد أصبحت مثل عاصفة إعصارية في مركز الكون تلف وتستقطب معها أو ضدها كل أركان الدول في العالم. ومع التصريح الأخير للرئيس الصيني «شي جنبينغ»، خلال مؤتمر الحزب الشيوعي الحاكم، والذي أعلن فيه: «إن العالم على وشك حدوث تغيّر جذري، فنرى الاتحاد الأوروبي والاقتصاد الأميركي ينهار تدريجياً. كل شيء يمهّد لنظام عالمي جديد»، وشددّ على «أن الوضع لن يكون كما في السابق بعد 10 سنوات من الآن، فيجب أن يكون هناك نظام عالمي جديد عن طريق الاتحاد بين روسيا والصين». قد تكون هذه الخطوة بين روسيا والصين هي الخطوة الأخيرة والحاسمة لتعريف ما يجري في العالم وإعادة الحسابات حول أهداف ما يجري وتوقعات ارتداداته ونتائجه على بلداننا العربية ومنطقتنا الشرق الأوسطية والناس أجمعين.
بهذه الخطوة تكون الحرب الإرهابية العالمية الثالثة الدائرة فعلاً رحاها على أرضنا العربية، دون أن تأخذ اسمها بعد على ألسنة وأقلام البشر، قد أصبحت بالفعل بداية حرب دموية طاحنة بين أسلوب عيش مادي، ولن أقول حضارة مادية غربية، مدعوم بالمال والإعلام يحاول فرض ذاته عبر الحروب خارج حدوده وعلى أنقاض حضارات عريقة هي أصل المعارف والثقافة والعمران والعلوم والفنون والقيم الأخلاقية والروحية من آسيا إلى إفريقيا، وتشمل طبعاً بلاد الشام والرافدين مهبط الرسل والأنبياء كما تشمل الصين وإيران وروسيا والهند. إذ إن حقيقة الحرب الدائرة اليوم، مهما اختلفت مواقعها الجغرافية، وتعددت أشكالها، بين معارك صغيرة هنا وأخرى كبيرة هناك، هي أنها حرب بين طرق عيش ومُثل وسلوك وطرق تفكير وثقافة مختلفة جداً بين هذه الأطراف المتحاربة. ففي الوقت الذي تَرفد الحضارة العربية العالم بالمعرفة والعلوم وأساليب العيش المعرفي، فإن الحضارتين الصينية والهندية طرف أساسي في طريق الحرير والتوابل والتجارة الحرة، التي هي الجامع للبشر والعامل على التفاعل بينهم في التثاقف والتبادل المعرفي، كذلك هي الحضارة الفارسية وحضارات الشرق فإنها تقدم للعالم أرقى الأساليب بإنتاج الجَمال، بينما عمل الغرب منذ ظهوره على المسرح العالمي على إبادة حضارات أصلية كاملة وأسّس على أنقاضها عالماً منتجاً للمال المتراكم من النهب والسلب، ولأدوات إعلام هدفها الأساس السيطرة على موارد البشر وأدوات الإنتاج من أجل إثراء فئة قليلة على حساب الأغلبية. ولم يتوقف هذا الغرب المادي عن شنّ حروب متتابعة متواصلة من أجل نهب ثروات الشعوب ومن أجل فرض أسلوب عيشه وطرائق تفكيره على الآخرين كي يضمن أنه لا وجود لأنموذج في الحكم والحياة إلا أنموذجه، وهذا هو كنه الصراع الدائر اليوم في منطقتنا وفي العالم برمته. ومن هذا المنظور بالذات لا يولي الغرب أي أهمية للجرائم التي ترتكب في فلسطين وكل ما تقوم به الصهيونية لتصفية شعب أصلي وإحلال مستوطنين مسلحين مكانه بقوة السلاح، لأن هذا بالضبط ما قامت به الدول الغربية في تعاملها مع السكان الأصليين وخاصة في الولايات المتحدة واستراليا وكندا ضد الهنود الحمر والأبورجينز. وها نحن نشهد مستويات مختلفة للحرب الدائرة ونتائج متعددة الاتجاهات من مصادرة قرارات، وشلل بلدان، إلى تصفية شعوب أصلية. والعامل الأخطر في هذه الحرب الدائرة اليوم والتي هي حرب ثقافية وأخلاقية ومعرفية وحرب هوية بامتياز، العامل الأخطر هنا، هو التشتت المفهوماتي والمعرفي في البلدان المستهدفة، والتي هي بلداننا نحن، لأن هذا العامل هو الذي يجعل خيانة مثقفين عرب، منهم اليميني الديني ومنهم اليساري الماركسي ومنهم القومي المرتدّ لشعب وأهل أمتهم، يجعل من هذه الخيانة وجهة نظر ويسوق معه قطيعاً من مدعي الثقافة العربية تَزِنُ ذممهم بالدولارات التي تقدم إليها. ذلك لأن مثل هذا العامل يخلق تشويشاً منهجياً وفكرياً لدى البعض الذين لم تتجذر أقدامهم بعد على صخور بلدانهم وقوميتهم العربية الصلبة.
في هذه المعركة العالمية اليوم، الحلّ الوحيد هو الانبعاث المبدئي والعقائدي والقومي، والصمود للدفاع عن حضارتنا وقوميتنا والتحالف مع ثقافات الحضارات العريقة بما قدمته للبشرية، في وجه ثقافة أحادية وحشية لا تؤمن بالتعددية الفكرية، اتخذت من الخونة والعملاء عوناً لها. علينا الدفاع عن قيمنا بأن الإنسان هو أقدس ما في الكون وليس الدولار والنفط، وأن من يفتي بقتل إنسان هو مجرم بحق الإنسانية، بغض النظر عن عباءته الدينية وادعاءاته الديمقراطية.
الحلّ اليوم يكمن في النظرة الكليّة والجوهرية للأمور، وبإعادة صياغة القيم والثقافة والتفكير بما يتناسب مع حجم الصراع بين هذين المشروعين، مشروع حضاري عريق هو أصل الحضارة الإنسانية ومعارفها وقيمها، ومشروع استيطاني غربي جشع للدولار والمال يقوم على استغلال الإنسان ونهب ثروات الشعوب، ووسيلته من أجل ذلك إعلام كاذب مخادع ونفوس ضعيفة في أرجاء المعارك تُشترى بالمال وتذرّ الرماد في عيون أبناء الوطن الواحد لتشتّت صفوفهم وتُسهّل تمرير المشروع الدموي الذي يستهدفهم جميعاً