مقالات

ما بين زيارة البابا.. وزيارة بيلوسي

د. بثينة شعبان

السردية، التي سبقت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان ورافقتها، تشترك في كثير من المعنى والهدف ودوافع الغموض مع الزيارة التي قام بها قداسة البابا فرانسيس لكندا، وقدّم خلالها اعتذاره إلى مَن تبقّى من السكان الأصليين هناك. الزيارتان تصبّان في حرص الغرب على الإبقاء على صورته التي اخترعها وزرعها في أذهان العالم، كحامٍ لـ”حقوق الإنسان” وللقيم “الديمقراطية” و”الأخلاقية”، التي تسعى الشعوب في كل أرجاء المعمورة لتحقيقها.

اللافت في زيارة البابا هو الاعتذار عن جرائم إبادة بشرية مهولة، لم تشكّل مادة خصبة للدارسين والباحثين على مدى قرون، بسبب الغموض المتعمّد والذي يلفّ هذا الملف، وندرة المعلومات المتاحة، لأن المستعمِرين العنصريين الأوروبيين، من الذين ارتكبوا الجرائم، هم الوحيدون الذين كتبوا التاريخ، وكشفوا عن قَدْر من المعلومات التي يلائمهم الإفصاح عنها، وطمسوا كل ما يمكن أن يشكّل إدانة لهم في عيون الآخرين. وبسبب معالجة هذا الملف بهذه الطريقة، وتغييب معظم الحقائق عن سجلات التاريخ، تمكّنت هذه الدول ذاتها، التي قامت على حطام حضارات عريقة أبادتها عن وجه الأرض، ببشرها ومدنها وتاريخها، من أن تنصّب ذاتها وقيمَها حاميةً لـ”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” في العالم!! فهل هناك أغرب عن المنطق من أن يتمكّن الذين أبادوا حضارات وثقافات وشعوباً من أن يدّعوا أنهم هم الذين ينشرون “الديمقراطية” في العالم، وأنهم هم الأحرص على “حقوق الإنسان” في كل مكان؟!

ومن اللافت جداً أن الإعلام، الذي يسمّي نفسه إعلاماً حراً، لم يتطرق أبداً إلى التاريخ المغيَّب للسكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ويتساءل عن سبب عدم وجود معلومات وحقائق عن هذه الشعوب، إلّا التي أفصح عنها هؤلاء، الذين قاموا بارتكاب جرائم الإبادة لهذه الشعوب. وفي كل ما قرأت، يعتمد الجميع أسلوب “الغموض البنّاء”، كما يسميه الذين لا يريدون أن يَصْدقوا القول، أو أن يُفصحوا عن المعلومات الدقيقة للحدث. وتطوّر هذا “الغموض البناء” خلال زيارة البابا لكندا، وعَبْرَ كل السرديات التي اهتمت بالزيارة وعبّرت عنها؛ تطوّر خلال زيارة نانسي بيلوسي لتايوان إلى “الغموض الاستراتيجي”، لأن الخطر هنا أدهى، وهو خطر حاضر وقائم، ويمكن أن يشكّل تهديداً وجودياً للجميع. ولأن هذا الغموض ضروري لممثّلي الولايات المتحدة ليتجنبوا التناقض القائم والواضح بين اعترافهم بجمهورية الصين، عام 1979، وكل الخطوات التي يتخذونها والتي توّجتها زيارة بيلوسي لتشجيع تايوان على أن تكون في مواجهة مع الصين بدلاً من أن تكون جزءاً من وحدتها الوطنية.

والغموض هذا ينطبق أيضاً على النيّات والأهداف المراد تحقيقها، ليس فقط بالنسبة إلى العلاقة بتايوان، أو بالصين، وإنما أيضاً بالنسبة إلى علاقة الحزب الديمقراطي بالحزب الجمهوري داخل الولايات المتحدة ذاتها، وعلاقة هذه الزيارة بالانتخابات النصفية المقبلة، وعلاقتها أيضاً بالوضع المتردي في الولايات المتحدة. وكالعادة، فإن مسؤولي الولايات المتحدة يركزون على الصورة والانطباع أكثر من تركيزهم على المعنى الحقيقي والنتائج المرجوّة من العمل ذاته، كأن عقلية هوليوود تحكم الساسة الأميركيين الذين لا يُوْلون الحقيقة والمغزى الاهتمام نفسه الذي يولونه للانطباع والصورة المتشكِّلَين في أذهان المتلقين، حتى إن كانت نتائجهما مقلقة في المدى المتوسط أو المدى البعيد.

السجال، الذي دار بين الولايات المتحدة والصين قبل زيارة بيلوسي وخلالها، يشبه، إلى حدّ بعيد، تبادُل السرديات بين الغرب وروسيا طوال أعوام، وخصوصاً في الأسابيع الأخيرة التي سبقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بحيث كان التركيز الغربي على اللقاءات بين الرئيس بايدن والزعماء الغربيين في إطار الـ”جي 7″ أو الناتو، أو اللقاءات عبر الأطلسي بين المسؤولين الأميركيين ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، وزيارات مسؤولين غربيين لكييف، ثمّ توسيع الناتو وضم فنلندا والسويد إليه، وإصدار حزمة عقوبات لم تصدر بحق أي بلد في العالم، وتجاوزت ستة آلاف عقوبة على روسيا. لكن، بعد انتهاء تأثير كل استعراضات القوة التي يتقنها الغرب بصورة كبيرة، والتي لا تشكل جزءاً من ثقافة الشرق ولا تعنيه في أغلبية الأحوال، ما هي النتائج التي نلمسها على الأرض، وكيف تتلاءم هذه النتائج مع السرديات التي استخدمها الغرب في حينه ؟؟

بعد خمسة أشهر على الحرب الغربية بالوكالة على روسيا في أوكرانيا، نستطيع القول إن البلد الذي دفع الفاتورة الباهظة لهذه الحرب هو أوكرانيا ذاتها، حيث تحوّل ملايين الأوكرانيين إلى لاجئين ومهجَّرين، وتم تدمير مدنهم وقراهم وبناهم التحتية وأسلوب عيشهم وفق طريقة لا يعرف أبعادها إلّا الذين عانوا هذه الحروب لأجيال، ويعرفون ماذا تعني الحرب بالنسبة إلى المجتمعات والعوائل والأفراد وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، وعرف العراقيون النتائج الكارثية للزجّ ببلادهم في حرب عبثية بالوكالة عن الدول الغربية ضد إيران؛ أي أن كل الادعاءات الغربية بشأن إرسال المعونات إلى أوكرانيا هي عمليات لتصريف أسلحة الدول الغربية وإغناء جيوب مُلّاك مصانع السلاح لديها، على حساب الشعب الذي تزعم مساعدته. أمّا بالنسبة إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، فإن الوضعين الاقتصادي والمعيشي لديها أسوأ كثيراً من الوضعين الاقتصادي والمعيشي في روسيا، التي انهالت عليها آلاف العقوبات من هذه الدول. وستكشف الأعوام المقبلة أن نتائج هذه الحرب أكثر كارثية على أوروبا مما توقعه أو تخيله أحد لدى حدوثها.

قد يظن البعض أن الولايات المتحدة نجحت في أن تنفّذ كلمتها بشأن زيارة بيلوسي لتايوان، وأن “الغموض البناء” بين الاعتراف بصين موحدة وتشجيع تايوان على الدوران في الفلك الأميركي نجح، وأن الصين لن تتمكن من أن تفعل شيئاً ملموساً في هذا الإطار. لكنّ هؤلاء لا يدركون عمق الفارق بين التفكير الغربي، الذي يركّز على الصورة والحدث، وبين التفكير الصيني الاستراتيجي والعميق والهادئ، لكنه الأكثر فعّالية والأكثر حصاداً للنتائج الحقيقية. لم يكن من المتوقع أبداً أن ترتكب الصين فعل حماقة بحق طائرة بيلوسي، ولا أن ترتكب عملاً يُرخي بظلاله الكارثية عليها مستقبلاً، إذ ما قامت به الصين ليس استعراضاً عسكرياً فقط، وإنما أيضاً مناورات عسكرية بالذخيرة الحية في المياه والمجال الجوي المحيط بجزيرة تايوان، بحيث تطوّق المناورات الجزيرة على نحو غير مسبوق، يصل إلى حد فرض حصار على مجاليها البحري والجوي. ويعلّق الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني في الصين على هذه المناورات، بالقول: “في الواقع، يتيح هذا ظروفاً جيدة جداً لنا عندما نعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي في المستقبل على نحو يؤدي إلى توحيدنا”.

لا شك في أن هذه المناورات سيُبنى عليها في الصين، وستشكل تحذيراً للمسؤولين في الولايات المتحدة وتايوان، مفاده أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل عامل الجغرافيا الذي يصبّ كلياً في خدمة الصين، ويشكّل رادعاً لأي حماقة يمكن أن تفكّر فيها الولايات المتحدة في قضية تايوان بعيداً عن مجرد الصورة أو الانطباع وخدمة الأهداف الانتخابية الداخلية. وفي الوقت ذاته، وضعت الصين نانسي بيلوسي وأفراد عائلتها في قائمة العقوبات، وألغت اجتماعات بين مسؤولين رفيعي المستوى في وزارتي الدفاع الصينية والأميركية.

كما أوقفت الصين التعاون مع الولايات المتحدة في ملفات متعددة. وبالإضافة إلى منطق الجغرافيا، فإن منطق الاقتصاد يقول إن 42% من صادرات تايوان تذهب إلى الصين، بينما 15% فقط تذهب إلى الولايات المتحدة، و22% من واردات تايوان تأتي من الصين، بينما تأتي 10% فقط منها من الولايات المتحدة. المناورات العسكرية، التي أجرتها الصين في مضيق تايوان، عطّلت الملاحة البحرية ووصول السلع إلى أمكنة متعددة من العالم. وبهذا أعطت الصين مؤشرات على خطورة ما يمكن أن تقوم به لردع التدخل في شأنها مع تايوان، الأمر الذي اضطر نانسي بيلوسي إلى التصريح بأنها لا تقصد تغيير واقع الحال، وإلى أن يعلن وزير الخارجية الأميركية أن الصين بالغت في اتخاذ إجراءات لا مبرّر لها. كما أن وزيري الخارجية الروسي والصيني أعلنا، في أعقاب زيارة بيلوسي، تعاوناً بينهما لبناء عالم جديد قائم على العدالة.

إذاً، بدلاً من “الغموض الاستراتيجي”، الذي تبنّته الولايات المتحدة أسلوباً لتجنب ملامسة الحقيقة والواقع، تردّ الصين بمشهد “استراتيجي” سوف يكون أساسياً لـ”التفكير الاستراتيجي” الصيني، من أجل اجتراح الخطوات الحقيقية واللازمة لإعادة توحيد الجزيرة مع الصين، والانتهاء بصين واحدة في الزمان والمكان الملائمين. وهذا هو الفارق بين مَن يعتمد إبادة الشعوب لبناء دولته، ومَن يراكم حضارات وخبرات على مدى قرون، ويستفيد منها في كل خطوة وقرار، وخصوصاً إذا كان الهدف هو تغيير موازين القوى، مرة وإلى الأبد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى