ما وراء الأحداث
السؤال الذي هو على كل شفة ولسان بين أبناء الناطقين بالضاد هو ماذا يجري في وطننا العربي؟ ولماذا كل هذا القتل والإجرام والفوضى؟ ومن المستفيد من كل هذا وإلى أين مآل الأمور؟ في مقابلات مع مواطنين عرب يجّسدون جوهر هذه المعاناة من اليمن إلى العراق إلى سورية وفلسطين وتونس ترددت عبارة واحدة على ألسنة شباب ونساء وشُيّب هي «كلّ هذا القهر» والقهر كلمة معبرّة جداً تدل على الصبر والعجز والغضب المكبوت والغيظ وانعدام الحيلة.
شعبٌ عربيٌ مقهور تزأر به رياح تغيير لا يعلم منشأها ووجهتها ولا سيطرة له على دفّة تسييرها. فها هي فلسطين حيث حوّل المستعمر الصهيوني بوادر انتفاضة إلى أسلوب صيد وإعدام لخيرة الشباب الفلسطيني الذي يأبى ذلّ الاحتلال ويعمل على اختراع أساليب مقاومة في ظلّ واقع عربي مشتت ومربك وغير قادر على الفعل، بل منشغل بردود أفعال واهية ومتأخرة لن تسمن ولا تغني من جوع. وهاهي تونس تعود إلى حالة من الإرباك لا يعلم حتى المسؤولون فيها حجم المندسين في إعادة إحياء هذه الحالة وحجم التقصير والترهّل الذي أدى إلى اشتداد حالة الغضب.
وهاهي اليمن مصدر الهجرات العربية وخزّان العروبة والتاريخ الذي لا ينضب تعاني اليوم تدميراً ممنهجاً لأروع آثارها وقتلاً لأطفالها ونسائها وشبانها دونما ذنب ارتكبوه. وهاهي أقدم الآثار الشاهدة على حضارة العرب وتاريخهم في اليمن والعراق وسورية وفلسطين تصبح أثراً بعد عين ولن يستطيع أحد إعادة هذه الشواهد والأوابد لأنها دُمّرت بطريقة يستحيل إعادة إشادتها وهذا يعني أن محوها من الخريطة هو الهدف. والمشكلة هي أن الهدف من كلّ ما يجري بعيد الأمد ولا يكاد يُصدّق لدى تشخيصه ولكنني سأحاول مقاربته بطريقة تؤكد واقعيته وإن يكن برنامجه الزمني مختلفاً تماماً عن البرامج التي تخطر لنا على بال. اليوم وبعد أن بدأ الاتفاق النووي الإيراني حيّز التنفيذ نشهد جميعاً أن التقارب الإيراني الأميركي أصبح واقعاً وأن الولايات المتحدة تخاطب إيران كدولة أساسية وقوّة يُحسب لها حساب في الشرق الأوسط وفي الوقت ذاته أطلق العنان لحملات إعلامية وحتى سياسية على المملكة العربية السعودية من معظم عواصم القرار في الغرب وخاصة من واشنطن ولندن. في الوقت ذاته أخذ التفاهم الروسي- الأميركي يترسخ مبدئياً حول ضرورة إيجاد حلّ لما يجري في سورية ومحاربة داعش في العراق وسورية. كما أن الشرخ اليوم بين تركيا وروسيا يقابله امتعاضٌ غربيٌ ملموس وغير ملموس من حماقة أردوغان ومحاولات تقارب روسي صيني مع دول الخليج وتعزيز الاتفاقات الروسية الصينية مع إيران بشكل واضح. في ظلّ هذه المتغيرات من الطرف إذاً الذي يشدّ من عصب بني سعود ليظهروا مزيداً من التعنت والحماقة في معادلات المنطقة؟ تعنت لن يزيدهم إلا ضعفاً وعزلةّ وصولاً إلى العجز الاقتصادي والفوضى السياسية وربما التقسيم الجغرافي؟
في ظل الخلافات الحقيقية التي نشبت بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الاتفاق النووي الإيراني حيث وقفت السعودية مع إسرائيل كبلدين وحيدين في العالم ضدّ الاتفاق ثمّ تراجعت السعودية عن موقفها هذا، في ظلّ قراءة ذلك الموقف وقراءة ما يجري اليوم يمكن الاستنتاج أن الكيان الصهيوني يشهد بداية فرقة بين سياسته وسياسات الولايات المتحدة، ولكنه أصبح السند والداعم وربما الموجّه الحقيقي لسياسات بني سعود في المنطقة، ولذلك فإن قائمة الآثار التي يجب تدميرها في اليمن والعراق وسورية وتونس وليبيا ومصر هي قائمة أعداء هذه الأمة التاريخيين والذين يخططون لإزالة آثار الحضارة العربية وتفتيت هذه الأمة واختلاق كيانات ولغات تضعف من حضورها وعروبتها وعراقتها في أذهان الأجيال القادمة طمعاً في خلق ولايات إسرائيلية على امتداد وطننا العربي خلال المئة عام القادمة. أوليس هذا ما فعله المستعمرون في الأرض الجديدة؟ أولم يدمروا حضارة وشعباً كاملاً وأنشؤوا امبراطوريتهم على أنقاض شعبٍ آخر؟ أولا يستدعي كلّ هذا أن يعرف العرب أنهم جميعاً في دائرة الاستهداف وأنهم ما لم يتخلصوا من الشخصانية والطائفية والنرجسية ويعملوا كقلبٍ واحد وجسدٍ واحد فإنهم جميعاً مهددون بالإزاحة؟ علّ نظرة سريعة على واقع التربية والتعليم واللغة والثقافة والفكر في وطننا العربي، علّ مثل هذه النظرة تشي بحجم الأخطار المحدقة بالهوية. فهل من وقفة جريئة وشفافة لمراجعة الواقع والذات ووضع خطط إستراتيجية تجنّب هذه الأمة تنفيذ مثل هذا المخطط الذي وُضعت له عقود وأجيال لتنفيذه؟