ما وراء التحرك
لم يسبق أن ظهر رئيس وزراء الكيان الصهيوني مرتبكاً وهو ينظر إلى أوراق يمسك بها وكأنه يأمل أن تشكّل له طوق نجاة كما ظهر في لقائه الرئيس فلاديمير بوتين، فهي المرة الأولى التي يعتمد فيها على ما كتب أمامه في لقاء قمة كهذا، ولم يحتج المشاهد إلى أن يسمع ما يدلي به كي يأخذ فكرة عن المضمون، لأن تعابير وجه فلاديمير بوتين الجادة ونظرته الجانبية إلى ضيفه أخبرت العالم عن أن بوتين كان يستمع بتمعن وريبة إلى التهويلات الإسرائيلية المكررة، والمعتادة، والمملة، عن الخطر الإيراني حتى قبل أن نقرأ تقرير جريدة «البرافدا» المنشور في 25 آب الجاري بعنوان: «كابوس نتنياهو يصبح حقيقة»، بعد أن رفض بوتين خطط نتنياهو العدوانية، حيث يكشف التقرير أن بوتين أجاب نتنياهو بالقول: «إنّ إيران حليف إستراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط»، وحين بالغ نتنياهو في وصف الخطر الإيراني أتاه ردّ الرئيس بوتين: «للأسف لا نستطيع مساعدتك هنا»، ويعلن موقع «برافدا ريبورت» بالإنكليزية بأن نتنياهو أخفق في إقناع بوتين بالمعزوفة الإسرائيلية المملة «عن التوسع الإيراني في الشرق الأوسط» تعليقاً على قمة نتنياهو وبوتين.
قالت صحيفة «معاريف» بالعبرية في 23 آب الجاري: «إسرائيل أصبحت معزولة في الساحة الدولية»، بعكس وضعها في دوائر العوائل الوهابية الحاكمة في الخليج، التي يردد إعلامها وممثلوها ومرتزقتها كالببغاء كلام نتنياهو الممل. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا هذه الهستيريا الإسرائيلية، والزيارات إلى واشنطن وروسيا، والتهويل بالأخطار المحدقة بإسرائيل، وما الذي حدث في الآونة الأخيرة ليستدعي كلّ ردود الأفعال هذه من قادة الكيان المغتصب؟ وهل يعتقد نتنياهو وحكام تل أبيب فعلاً أن حكومات العالم بمستوى السذاجة والبلاهة نفسه واللتين يتسمُ بهما حكام المشايخ الخليجية؟
المستجد الأساسي الذي حدث هو تغيير موازين القوى في المنطقة بعد تقدّم الجيشين العربي السوري والعراقي، وقوى المقاومة، في مناطق عدة وتحرير الموصل والتوصل إلى اتفاق بشأن جنوب سورية لا يعطي لإسرائيل أو الأردن دوراً في مراقبة المنطقة، والتنسيق والتواصل المعلن وغير المعلن بين العراق وسورية، وسورية ولبنان، وبحضور إيران وروسيا في التنسيق على هذه الجبهة الممتدة من إيران إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط.
يفقد الكيان الصهيوني عنصر الهيمنة الذي اعتاش عليه لمدة عقود والذي امتد مؤخراً ليشمل السعودية ودول الخليج، إلى أن برهنت المقاومة أن كسر شوكة هذه الدعاية الإسرائيلية ليس بالأمر المستحيل، وإلى أن اضطرّ العدو إلى إعادة حساباته وفق معطيات ميدانية وإقليمية، ودولية جديدة.
إنّ العامل الذي لا يقلّ أهمية عن العاملين الإقليمي والدولي، هو الانتصار الذي حققته قوى المقاومة والجيش العربي في كل من سورية والعراق وفي القلمون، والانهيارات المتسارعة التي حدثت في صفوف الإرهابيين على اختلاف عصاباتهم، وكأنهم نمور من ورق، والسيطرة مرة أخرى على هذه البقعة الجغرافية التي تصل سورية بلبنان وإبعاد أدوات إسرائيل من خونة ومرتزقة إرهابيين تحت مسميات مختلفة عنها.
هذا هو الذي أصاب حكام إسرائيل بالهستيريا، ودفعها إلى التصرف بهذه الطريقة المجنونة الغريبة أمام عدسات العالم أجمع، ذلك لأن انتصار الحلفاء في المعركة قد أفقد الكيان الصهيوني مواقع كان مطمئناً لوجودها بيد عملائه من الإرهابيين، ليبرهن للمرة الألف أن الإرهابيين من داعش وجبهة النصرة وغيرهما، أدواته ومرتزقته، وهذا أولاً، أما ثانياً فقد برهنت قوى المقاومة والجيش العربي في كل من سورية والعراق أنهم توصلوا إلى مستويات قتالية ميدانية غير مسبوقة ترهب العدوّ الصهيوني وتضطره لإعادة حساباته في أي معارك قادمة.
إذاً، إن جنونه ليس منطلقاً فقط ممّا يفقده اليوم في الميدان من جغرافيا كانت بيد عملائه الإرهابيين، ولكنه ينطلق أيضاً من احتمالات أي معركة قادمة مع الذين يعملون على تحرير الأرض من براثن احتلاله البغيض.
فمهما كان تدريب جيشه يبق تدريباً نظرياً مقارنة بمعارك ميدانية تخوضها قوى المقاومة والجيشان العربيان السوري والعراقي، وتذهله بسرعة قضائها على مرتزقته وأعوانه في الميدان، كما أن التنسيق بين إيران والعراق وسورية ولبنان هو الكابوس الذي يخشاه العدوّ الصهيوني لأن قوته قائمة على التفتيت وزرع الفرقة بين العرب، أما إذا توحدت إستراتيجياتهم وخططهم وخطواتهم فهو يعلم أنه سوف ينهار كما انهار هؤلاء الإرهابيون من الخونة والعملاء.
العامل الآخر والأبعد الذي أثار قلق الإسرائيليين هو أن زيارتهم إلى الولايات المتحدة لم تأتِ بالنتائج التي كانوا يحلمون بها، ذلك لأن حليفهم التاريخي والإستراتيجي غارق اليوم في خلافاته الداخلية، وفي تشنجاته مع مختلف الأطراف الدولية وفي خسران مصداقيته كقوة عظمى على المستويين الداخلي والخارجي رغم نهب ثروات السعودية والخليج، فإن هذا الشريك لم يستطع أن يقدّم لهم حلولاً مطمئنة، فتوجهوا إلى روسيا متأبطين أكاذيبهم المعتادة منذ عقود عن الأخطار المحدقة بهم، وهم يحتلون الأرض العربية ويقطعون الشجر، ويقتلون البشر، ولكنهم ووُجهوا هناك بقائد يحترم كلمته والتزاماته، ولا يجامل في الأساسيات، وهم يدركون أن هذا القائد له القول الفصل اليوم في ملفات الشرق الأوسط، ولم تعد الكلمة للولايات المتحدة والغرب وعملائهم الوهابيين رغم ثرواتهم.
لقد أصبح اليوم ثابتاً أن الإرهاب الذي ضرب سورية والعراق وليبيا واليمن، ودمّر أوابدهما التاريخية والحضارية، وقتل الملايين من العرب، هو إرهاب صهيوني تموّله العائلة السعودية، ولا يمت إلى الإسلام بصلة، فها هو الرئيس السابق للمخابرات البريطانية MI6 ريتشارد ديرلوف يعترف في محاضرة في لندن أن السعودية ساعدت داعش في الاستيلاء على الموصل وشمال العراق، ومن ثم شرق سورية، وستكشف الأيام أن السعودية أداة بيد الصهيونية، وأنها وقطر دفعتا الأموال الطائلة من أجل تدمير البلدان العربية ومدنها من نمرود إلى الموصل إلى تدمر وحلب وصنعاء وسعدة والعوامية والبحرين.
نحن اليوم في مرحلة تتهاوى فيها الأدوات الصهيونية على أرض سورية والعراق، ويرتجف قادة الكيان الغاصب، لأن الحرب الظالمة التي فبركها هو وعملاؤه في السعودية والخليج لشعوبنا قد زادت جيوشنا ومقاومتنا بسالة ومهارة وكفاءة، فماذا هم فاعلون؟
رحم الله قوافل الشهداء من شبابنا الميامين الذين قضوا في سبيل هذه الأمة والدعاء بالشفاء للجرحى ولتطمئنّ قلوب أحبائهم لأنهم قضوا في سبيل القضية الأولى النبيلة، قضية العرب والمسلمين جميعاً، قضية فلسطين والأراضي المحتلة، والحقوق المشروعة لشعبنا في أرضنا وديارنا.
«قل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا»، والهستيريا التي أصابت الكيان وتصرفاته الهوجاء ستزيد في كشف حقيقته وحقيقة علاقاته مع كلّ من مارس التدمير الممنهج ضد سورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن، وسيكشف التاريخ أيضاً عن الوجه الحقيقي لكل ما عشناه من أحداث، وما زيارة نتنياهو إلى بوتين ولغة الجسد في هذا اللقاء إلا أول الغيث، وأول الغيث قطرة.