مصير سورية والواقع الرسميّ العربيّ
في عالم تتلاطم فيه أمواج المبادرات والجهود لصياغة المستقبل من كلّ حدب وصوب تبدو لي الكتلة العربيّة الرسميّة العاجزة والشعبيّة التي فقدت أملها وقوتها جاثمة أمام الشاشات لتشاهد وتتابع نتائج الاستفتاء البريطاني وتنشغل بعدها بتحليل الأسباب والنتائج دون أن تُغفل التفكير مليّاً بحظوظ المرشح ترامب أو المرشحة هيلاري كلينتون قبل أن تُفاجأ برسالة اعتذار من أردوغان إلى الرئيس بوتين وتحاول التقاط أنفاسها لفهم هذا التحوّل المهم في المنطقة ومن ثمّ تصغي إلى التقرير عن خطاب الرئيس بوتين أمام سفراء روسيا الاتحادية في العالم والذي تحدّث به بكل فخر واعتزاز عن عقيدة روسيا في السياسة الخارجية والتي ترتكز على احترام سيادة الدول والحفاظ عليها وضرَبَ مثلاً على ذلك جهود الدبلوماسية الروسية ومن بعدها سلاح الجيش الروسي لقمع جماح شهية الغرب بتدمير سورية بعد أن قاموا بتدمير العراق وليبيا تحت ذرائع كاذبة عن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعد هذا وذاك يترقب المواطن العربي نشر اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) تقريرها عن سبل إحياء جهود السلام والذي من المرجّح أن يكتفي بتوجيه النقد لسياسة الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية دون أن يتوقف المشاهد ربما عند كلمة ينتقد أو كلمة سياسات بدلاً من جرائم استيطانية وعنصرية ضدّ الشعب الفلسطيني والتي تتفاقم منذ سبعين عاماً في حين تتراجع اللغة والمواقف الضاغطة والتي يمكن أن تكون صادمة لإعادة الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها الشرعيين. ومن ثمّ يُفاجأ بخبر اقتراح أوباما على روسيا إبرام اتفاقية بشأن التعاون العسكري في مجال محاربة الإرهاب في سورية وقبل ذلك بزيارة وزير الدفاع الليبي حفتر إلى روسيا ولقائه وزير الدفاع الروسي، الأمر الذي لا يتم طبعاً من دون تنسيق روسي مع الولايات المتحدة، وبعدها مباشرة الإعلان عن زيارة وزير خارجية تركيا إلى سوتشي للقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في حين تبذل دول تسمّى عربيّة جهدها لعدم لقاء الجيشين السوري والعراقي في محاربة الإرهاب وتنشغل هذه الدول ذاتها بخدمة ما يملي عليها أسيادها من أجندات من دون أن يكون لديها مرجعيّة وطنيّة أو عربيّة أو حتى إقليميّة. وهنا في هذا المفصل الحساس والمهم جداً من تاريخ البشرية، من حقّ المواطن العربيّ أن يتساءل هل تحوّل العرب إلى مراقبين لما يحدث في منطقتهم وما يحدث لهم؟ وهل تحوّل بعضهم إلى أدوات في أيدي أعداء العرب لتنفيذ مخطط استنزاف ثروات الأمة وشرذمتها وإضعافها في حين يسعى الخصوم والأصدقاء، كلّ بطريقته، وحسب الممكن له من الفعل، لتحسين مواقعه وحظوظه في صياغة عالم جديد يتشكّل أمام أعيننا؟ وهل يمكن أن نشاهد إخراج فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي من محاولة التسويات وحركة نتنياهو من عاصمة إلى أخرى لقضم حقوق الفلسطينيين وتغشية أبصار العالم بحديث عن دولتين لم يترك للفلسطينيين اليوم أرضاً تقارب حتى ما نصّت عليه القرارات الدولية ناهيك عن حق العودة الذي يصادره الأعداء بخبث وتنسيق وتمويل ونحن مجرّد مشاهدين للأحداث؟
أمام المواطن العربي خياران: إما أن يستسلم لتعقيدات المشهد ويصيبه القنوط واليأس من واقع رسميّ عربيّ متردٍ ومتواطئ علناً مع الأعداء ضدّ الأشقاء في العراق وسورية واليمن ولبنان والبحرين وليبيا، هذا الواقع العربي المتخاذل وقف اليوم مع إسرائيل ضدّ شعب فلسطين ويساهم في تدمير العراق منذ 1979 ويستمر في تدمير ليبيا ويموّل ويدعم حرب الإرهاب ضدّ سورية ويقصف اليمن أو أن يكون هذا المواطن قادراً على إعادة التفكير استراتيجياً وبعمق تماماً كما يفعل جميع الآخرين ويراجع كل تاريخنا وحاضرنا دون رياء أو مكابرة، أو على الأقل دراسة تاريخنا الحديث منذ احتلال فلسطين أو حتى منذ حرب 1973 ليضع النقاط على الحروف ويُسميّ الأشياء بمسمياتها ويدرك ويستنتج أين كانت المواقف التي قادت الأمة إلى هذه الحالة من التردّي والشرذمة. سيجد المواطن العربي من دون شكّ أن الاختراقات بين صفوف هذه الأمة تحت عنوان اختلاف الآراء كان سبباً رئيساً في كل ما تعرضت له في تاريخنا الحديث. فها نحن نشهد لدى أعدائنا وخصومنا وأصدقائنا أن لا خلاف أبداً مسموحاً به على القضايا المصيريّة والجوهريّة وأن الخلافات الوحيدة المسموح بها هي التي تصبّ جميعها في تعزيز المواقف والمصالح الوطنية. فكيف تقبل هذه الأمة في تاريخها الحديث أن تكون أصواتاً في سدة الحكم تقف ضدّ التحرير وضدّ المقاومة وضدّ فلسطين وضدّ عروبة وسيادة سورية والعراق واليمن وليبيا ووحدة أراضيها؟ وهل وجد العرب يوماً عملاء لهم في صفوف خصومهم مستعدين لبيع مصالحهم الوطنية مقابل مال أو مراكز أو أي مغريات تُعرض عليهم؟ في حمأة هذه الأحداث المتسارعة لن يُحدِث ترامب أو هيلاري أي فرق على مجريات حياة العرب ولن يؤثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على لقمة وصحة وتعليم المواطن العربيّ ولكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغيّر من واقع العرب ومن مستقبلهم هو أن يؤمنوا أنهم جميعاً في قارب واحد وأن الحرب التي يشنوها على سورية سوف ترتد عليهم عاجلاً أو آجلاً وأن خلاص سورية هو خلاص لهم وأن عودة الأمان لسورية هو أمان للعرب وللمنطقة والعالم. لا شكّ أن مصير سورية سيحدد مصير العرب جميعاً بغضّ النظر عن العجز الرسميّ العربيّ، وقد كانت دائماً بلاد الشام منارة العروبة وستبقى، رغم كل الآلام والدماء التي يتسبب بها عجز العرب أنفسهم عن كونهم فاعلين ومرنين في عالم يتميز بسرعة الإيقاع والتحوّل. لا مناص أمام العرب سوى أن يعترفوا أن أساليبهم التي يتبعونها اليوم تقود إلى التهلكة وأنّ عليهم الاعتراف بفشل هذه الأساليب على مدى نصف قرن ونيّف وتغييرها كي يصبحوا قابلين للحياة والاستمرار.