مفترق طرق
ما يجري اليوم على مدى الساحة العربية يكاد يكون مدهشاً بالفعل وهو يذكّرني بالمثل الشعبي القائل «يحفرون قبورهم بأيديهم». فبعد أن تبين مدى النتائج الكارثية لاتفاقات سيناء 2 وما أعقبها من كامب دافيد، ووادي عربة، واتفاق أوسلو، التي فكت العزلة الدولية عن كيان العدو، نجد بعض العرب اليوم إما يسيرون طوعاً وعلناً في ركب التطبيع المجاني المجنون مع المحتلّ الإسرائيلي، وإما يعقدون اللقاءات والصفقات «لتوحيد» الصف الفلسطيني، ولكن ليس من أجل مقاومة الاحتلال وإنما من أجل تمرير صفقة القرن الأميركية الصهيونية، وإيجاد وطن بديل للفلسطينيين خارج فلسطين، وحلّ مشكلة المياه والاقتصاد في غّزة وكأن مشكلة فلسطين مشكلة خدمات ورفاه في غزّة. وفي المقابل يواصل وكيل الولايات المتحدة ووكيل إسرائيل الحقيقي في الشرق الأوسط أردوغان اللعب على عشرات الأوراق واستعمال الكذب والمراوغة والنفاق لكي يحصل في النتيجة على صك نهائي بأنه المثل الوحيد للإخوان المسلمين وأن تركيا هي الواجهة الإسلامية بعد أن تمّ إخراج مصر والسعودية فعلاً من المعادلة وأصبحتا دولتين هامشيتين. والمدهش أكثر هو أن معظم العرب ما زالوا منخرطين بتحليلات وحوارات لا تمتلك الرؤية الموحدة للمقاومة، ولا الإستراتيجية البعيدة المدى وكأنهم لا يرون أن أقدامهم تنزلق شيئاً فشيئاً بعيداً عن أي مركز قومي إقليمي أو دولي، وأن هدف كلّ هذه الجهود التي يعملون على تيسيرها هو الإلقاء بهم خارج الخريطة السياسية للدول الإقليمية أو الإسلامية التي يُحسب لها حساب في المنطقة أو العالم، إذ ما زالوا منغمسين في إحراز نقاط ضدّ بعضهم البعض وتقويض كلّ طرف للآخر بدلاً من البحث عن سبل لتجميع مصادر قوتهم القومية في وجه الخطر الذي يتهددهم جميعاً من دون أي استثناء.
والمشكلة في الأساس كما تبدو اليوم هي مشكلة انعدام الوعي القومي، إذ إن الوعي القومي بأبعاد ما تتمّ حياكته وتنفيذه ضدّ الأمة العربية وغالباً من خلالهم وأبعاده المستقبلية وأخطار هذه الأبعاد عليهم جميعاً يكاد يكون معدوماً. وهذا كله نتاج معادلة بسيطة خطّها الكيان الصهيوني وحليفته الأميركية منذ عقود وهي شرذمة مواقف العرب، وإلهاؤهم بصغائر الأمور، وتعويم صغار القوم والمرتزقة منهم لعقد صفقات معهم، وإيهام العرب الآخرين والعالم أن هذا سلام يقود إلى الأمن والرخاء. أو لم يحن الوقت، وبعد خمسين عاماً من تجريب كلّ الأساليب والأدوات أن تتمّ مراجعة هذه الأساليب وفق رؤية عربية صادقة منطلقة من صميم المصلحة القومية العربية ومن تفكير بعيد المدى بمستقبل هذه الأمة. اليوم، وبعد كلّ ما جرى ويجري على الساحة العربية، أصبح من الضرورة بمكان أن نفرز فرزاً نهائياً، عرب التجارة والمال والذلّ والجهل والخنوع، عن العرب الأحرار المؤمنين بقضاياهم والمستعدين لبذل الغالي والنفيس في سبيل الانتصار للكرامة والمستقبل. وهذا الفرز لا بدّ أن يخرج من إطار التعميم إلى إطار التخصيص، ولا بدّ أن يكون نبراسه الرأي الحرّ وعدم الارتهان للآخر مهما صعبت الظروف وشحّت المقدرات حيث أثبتت حركات التحرر العالمية أن إرادة الإنسان أقوى وأمضى من أي سلاح يواجهه فكيف إذا تكاتفت جموع عربية من بلدان مختلفة لقول كلمتها بغضّ النظر عن التضحيات المطلوبة، وبهذا الأسلوب فقط تتمّ صناعة التاريخ المشرّف للأوطان. لقد تمكّن المواطنون الشرفاء في غزّة ومن مختلف الفصائل الفلسطينية، ورغم شظف العيش الذي يعانونه تمكّنوا من إحداث خلل واضح في المعادلات الصهيونية، وأرغموا وزراء العدوّ على الاستقالة، وخلقوا إرباكاً لمن يدّعي بصلافة أنهم الأقوى في المنطقة. ذلك لأن الطيران والصواريخ والأسلحة التي يفاخر بها العدوّ لا تحسم معركة ولكنّ إرادة الناس هي التي تحسم المعارك. وما جرى لسورية على مدى ثماني سنوات أكبر شاهد على أن الشعب إذا قرّر الفداء والمقاومة على أرضه فلا يمكن لكلّ قوى الأرض مجتمعة أن تقهره أو تهزمه. إن المهرولين في مسار التطبيع يجب ألا يؤثروا أبداً في نفوس الأحرار والمؤمنين بقضاياهم لأن التاريخ سيحكم عليهم بما يستحقّون من الذلّ والعار، بل يجب أن يدفع هذا كلّ العرب الشرفاء وأحرار العالم المساندين للحق والحرية وَأن يسارعوا الخطا لوضع الرؤى والإستراتيجيات لمقاومة هذا النهج على المدى المتوسط والبعيد. وما أقصده هنا هو أن هذه المنطقة قد وصلت إلى مفترق طرق واضح وضوح الشمس؛ وهو إمّا الذلّ طوعاً والسير بلا إرادة في ركب الأعداء، وإمّا البناء على التجارب الأبية، وشحذ الهمم لمواجهة مرحلة صعبة في التاريخ العربي الحديث ولكنها مرحلة واعدة جداً، لأنها تنهي عقوداً من غموض المساومات، والمواقف المتأرجحة المنافقة التي استهلكت وعي وإرادة أجيال من الشباب إلى أن وصلت إلى منتهاها، وهو الفرز النهائي بين المطبّعين المتخاذلين من جهة، والمؤمنين الأحرار من جهة أخرى. هذا زمن لا مكان فيه للغموض أو المساومة أو الترّيث أو إضاعة الوقت، لأنه زمن الحسم والفصل، وهو زمن بناء الوعي من اللبنة الأولى، الوعي بالكرامة القومية والحقوق الوطنية والوعي بأثمان التبعية والهوان. في هذه الفترة لا بدّ أن تلعب الأحزاب والنقابات والمنظمات الشعبية دور الريادة، وخاصة أنها جميعها تعمل في معظم الأقطار العربية. وفي هذا الزمن لا بدّ من تحالفات حقيقة ومعمّقة مع الأصدقاء والحلفاء، وفي هذا الزمن لا بدّ من تسليط الضوء على ما يحاول ترويجه الطابور الخامس وإرساله إلى نفايات التاريخ. في هذا الزمن نحن بحاجة إلى التركيز على خلق وعي قومي عميق بأبعاد ما يجري، ونتائجه المستقبلية وعدم الانجرار وراء يوميات لا تغيّر من المراهنات الإستراتيجية شيئاً. إن دور أردوغان الكبير والمشؤوم في استقدام الإرهاب إلى سورية والعراق، وتدمير ما تمكنوا من تدميره، وبناء قواعد عسكرية تركية في الخليج، ليس إلا توطئة لتعزيز زعامته الموكل بها من الصهاينة والأميركيين وإن المال العربي يستخدم فقط لتقويض أي قوى عربية يمكن أن يحسب لها حساب في تعزيز مستقبل العرب. نعيش اليوم في لحظة فارقة في التاريخ وعلى كلّ أحد منا أن يدرك أين يؤدي به هذا المفترق الذي يتخذه؟