ملامح القطب الجديد
في خطابه السنوي للاتحاد الفيدرالي الروسي، شرح الرئيس فلاديمير بوتن الأسباب التاريخية التي دفعت روسيا للتحرك على المسرح العالمي اليوم، فتحدث عن تقاعس العالم في مواجهة النازية، الأمر الذي كلّف الإنسانية ملايين البشر في أكثر الحروب دموية في التاريخ. كما أشار إلى أن أفغانستان مازالت جرحاً مفتوحاً، وأنّ الدول التي لا تؤمن بالسيادة وحقّ تقرير المصير فتحت أبواب الحروب والنزاعات في سورية والعراق وليبيا واليمن، وأنّ حالة العالم اليوم تتطلب من الدول المتحضّرة أن تساهم في الحرب على الإرهاب، وأن تؤكّد تحالفها مع القوى التي تحارب الإرهاب فعلاً لا قولاً. كما أشار بوتن إلى تجربة روسيا مع الإرهاب والأحداث الإرهابية التي ضربت عمق موسكو وغيرها، وأنه، وكي لا ينتشر هذا السرطان في العالم، قرّر المساهمة مع الجيش العربي السوري في ضرب الإرهاب في سورية.
اللافت في خطاب بوتن أنه ذكر الأديان كلها بالاسم، وأنه تحدّث باحترام عن كلّ البلدان وتابعي الديانات في توجّه يعتبر الإنسانية أسرة واحدة بالفعل، ويشير بالبنان إلى أن المعايير المزدوجة، أي النفاق، هي مصدر كلّ خلل في العلاقات الدولية والتحركات الإنسانية. لقد سمّى بوتن الأشياء بأسمائها ولم يلجأ إلى العبارات الغامضة أو الرنانة أو التلاعب بالأقوال والعبارات كي يظهر بمظهر الإنسانيّ الحكيم، في حين هو يُضمر شيئاً آخر. ولكنّ اللافت أيضاً أن وكالات الأنباء العالمية لم تتعامل مع هذا الخطاب المهم كما تتعامل مع خطاب الاتحاد الذي يلقيه الرئيس الأميركي كلّ عام، ولم تُكرّس الوقت والجهد اللازمين للتحليل والاستقراء واستنباط الدروس. مع أن خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس أوباما تحدث عن «الاستثنائية الأميركية»، أي عن عدم الإيمان بالتساوي بين الشعوب، أو بلغة أبسط، تحدّث بنظرة استعمارية واستعلائية عن شعوب الأرض. والسؤال هو متى ستدرك القوى العالمية أن المركزية الغربية قد وجدت من أجل استعمار الشعوب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً أيضاً، وأنّ النفاق الغربي، والذي يقول ما لا يفعل أبداً مسؤول عن القسم الأعظم من المصائب التي تحلّ بشعوبنا؟ ومتى سندرك جميعاً أن من مصلحتنا ومصلحة بلداننا ومستقبل أجيالنا أن ننزع عن الغرب هذه المركزية، وأن ننقل مركزية ولائنا وتأييدنا ومحبتنا إلى من يؤمن بالمساواة بين البشر وبين أتباع الديانات، ومن يؤمن أيضاً بأنه من حقّ الشعوب أن تقرّر مصيرها، وتختار نوع الحياة الذي تريد؟. أحد العوامل الأساسية التي تحول دون ذلك هو السيطرة الغربية والرجعية العربية على الإعلام، وبهذا فإن هذا الإعلام يروّج لما يريد، وينشر الأفكار التي يريد. ولنأخذ مثالين عن ذلك؛ حين حدث تفجير برج البراجنة في بيروت، اختلق الإعلام الصهيوني كذبة أن فلسطينيين قاموا بالتفجير، وذلك لخلق شرخ بين المجتمعات العربية والمجتمع الفلسطيني في الداخل والشتات، وقد ثبت بعد ذلك كذب هذا الادعاء. وحين حدث تفجير كاليفورنيا، سارع الإعلام الصهيوني إلى اتهام سوري، وثبت بعد ذلك أن هذا غير صحيح. يعتمد الإعلام الصهيوني على قاعدة أساسية في الإعلام، أن مستقبلي الخبر الأول هم النسبة العليا، وأنّ المتابعين والذين يكتشفون بعد ذلك الخبر الصحيح هم النسبة الأقلّ.
وقبل الرئيس بوتن، توجه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية برسالة إلى الشباب الفرنسي بعد تفجيرات باريس، يدعوهم فيها إلى نبذ العنصرية والإرهاب، واعتبار العالم أسرة واحدة، والتصرّف على هذا الأساس، ونبذ النفاق والعنصرية، واحترام الاختلافات الثقافية بين الشعوب. وعشية تفجيرات باريس توجّه الرئيس بشار الأسد إلى الشعب الفرنسي معزّياً من خلال الوفد الفرنسي الذي كان يزوره، في حين لم نسمع إدانة واحدة من الغرب لقتل أطفال ورجال ونساء أبرياء في سورية أو في فلسطين، لا بل إن الرئيس الأمركي باراك أوباما اعتبر أن الفلسطينيين مسؤولون عن العنف الذي يولّده الاحتلال الإسرائيلي. ملخّص القول هو أن الغرب الذي لم يقبل أن يفرّق بين الإرهاب والمقاومة ليس جاداً أبداً في محاربة الإرهاب، بل يستخدم هذا الإرهاب لخدمة مصالحه هنا وهناك، وحين يقارب هذا الإرهاب الخروج عن سيطرته يحاول احتواءه.
من ملامح القطب الجديد مجموعة نظم أخلاقية وسياسية تتحدث عنها الأفعال قبل الأقوال، أساسها الصدق، واحترام إنسانية الإنسان، واعتبار اختلاف ألسنتنا وألواننا من آيات الله، بدلاً من هذه النظرية العنصرية التي كلّفت البشرية سعادتها وهناءها. أي إن خطاب الرئيس فلادمير بوتن لم يكن فقط من أجل روسيا، ومن أجل حروب روسيا، بل من أجل أسس مختلفة للأسرة الإنسانية، أسس تضع حداً للنفاق الغربي، والعنصرية، والاحتلال، وتُرسي أسس الاحترام لثقافات الشعوب وأساليب الحكم وطرائق العيش التي تختارها هذه الشعوب، بعيداً عن فرض وتعميم الثقافة وأسلوب العيش الغربيين عليها.