منظمة الأمم المتفرقة
كنا في الماضي ننتظر انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لنستمع إلى خطب رجالات تقود العالم، ولنستشرف البوصلة التي سيتحرك وفقها القارب الدولي في السنوات القادمة. وأتذكر أنني كنت أحتفظ ببرنامج الخطب وبدفتر وقلم لأسجّل ما أراه هاماً من أجل فهم أعمق للعلاقات الدولية. وحين كنت أحضر مع وفد بلادي في تسعينيات القرن الماضي أتذكّر شعوري أنني أسير في أروقة الأمم المتحدة وألحظ أهمّ الرجالات تجتمع وتتحدث وكأنّ العالم يتشكّل هنا وكأن علاقاته المستقبلية تنطلق من هنا. أما اليوم فقد مرّ اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة مرور الكرام ولم أقابل أحداً انتظر خطاباً أو ألغى موعداً لأنه يتعارض مع كلمة زعيم ما أمام الجمعية العامة، وحين بذلت جهداً إضافياً واطلعت على عدد لا بأس به من الكلمات التي ألقيت في هذه الدورة للجمعية العامة للأمم المتحدة أيقنت أن الشعور العام لا يخطئ. فهو يدرك وبشكل فطري أين هو المفصل الهام كما يدرك أين تكون القيمة المضافة وأين لا تكون. أول انطباع خرجت به نتيجة متابعتي هذه هو أن الجمعية العامة أصبحت اليوم للأمم المتفرّقة وليست للأمم المتحدة؛ حيث لا يوجد اتحاد ولا وفاق على شيء. فرئيس من كانت أقوى دولة في العالم تجاوز بخياله جدران التفرقة العنصرية والاستيطان والاحتلال وجنح إلى حفر خندق مع المكسيك يملؤه بالتماسيح والثعابين لمنع الهجرة إلى بلاده. والسلطان العثماني الجديد اختار مجموعة من الأوهام التي يرددها دائماً في الشرق الأوسط لينقلها إلى منبر دولي ربما لقناعته أن الفائدة يجب أن تعمّ وأنه ربما هناك من لم يسمع بهذه الأوهام البعيدة عن الواقع وهو حريص جداً على إسماعه. واللافت في الأمر أن الثقة مفقودة تماماً بين المتحدثين والمستمعين؛ ففي الوقت الذي يلقي ترامب كلمته تختار ممثلة فنزويلا، عن عمد طبعاً، أن تتابع قراءة كتابها أمام الكاميرات، وفي معظم الأوقات فإن حضور الكلمات في الجمعية يكاد يقتصر على ممثلي البلد ذاته وبعض الأصدقاء والضيوف. إن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على فقدان الثقة بهذا المنبر وما تفيض به قرائح من عليه. ولكنّ هذا الأمر ليس مسألة بسيطة أو عابرة أو منفصلة عمّا يجري في العالم في الأوقات الأخرى من العام أو الأعوام، بل إن هذا الأمر معبّر عن ظاهرتين أساسيتين في عالم السياسة اليوم: الأولى هي افتقار العالم إلى شخصيات قيادية تدرك بالفعل حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، ليس فقط بالنسبة لمواطنيها وإنما أيضاً تجاه هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البشرية. والظاهرة الثانية هي المخاض الذي تخوضه الدول والمنظمات الدولية لبلورة نظام عالمي جديد بعد أن وصل النظام الذي خلفته الحرب العالمية الثانية إلى نهاياته واستنفد فرصه في توفير أي إمكانية لنظام دولي حقيقي يساهم في حفظ الأمن والسلم الدوليين.
أضف إلى ذلك أننا نتابع ونراقب يومياً كيف أن الولايات المتحدة مستمرة في فرض عقوبات على الصين وروسيا وطبعاً على دول أخرى كثيرة من بينها سورية وإيران وكوريا الشمالية؛ أي أن أسلوب التعامل مع الدول هو أسلوب العقوبات ومحاولة فرض هيمنتها من خلال هذا الأسلوب الذي يزيد الفرقة الدولية تفاقماً والبحث عن شكل آخر للعلاقات الدولية إلحاحاً. وقد سعت دول كثيرة ومنذ سنين إلى ديمقرطة مجلس الأمن أو العلاقات الدولية إلا أن جهودها لم تكلّل بالنجاح إلى حدّ الآن. والسؤال الملح اليوم وبعد هذه المرحلة التي توصلنا إليها: هل سيستمر الانهيار في العلاقات الدولية والتفكك لأعوام قادمة قبل أن تتمكن الدول الصاعدة والداعية إلى قواعد الندية والاحترام في العلاقات الدولية مثل روسيا والصين والهند من فرض إرادتها بشكل نهائي وتغيير النظام العالمي وقواعد الأمم المتحدة إلى شكل يحقق فعلاً خير البشرية ويصبح ممثلاً حقيقياً لإرادات الشعوب وطموحاتها في عالم المستقبل؟ أعتقد أن العالم القادم سيشهد هذا المخاض وسيختتمه بإحلال مجموعة قواعد دولية تبحث عن المشترك بين الدول بعيداً عن قواعد الهيمنة والعقوبات والاستعلاء التي فُرضت على الأسرة الدولية منذ عقود. ولا شك أن هذا يحتاج إلى عمل حثيث وإدراك عميق لخطورة المرحلة التي تمرّ بها الإنسانية اليوم وضرورة وضع البوصلة الصحيحة لإنقاذها. ولا شك أن ما تقوم به الصين وروسيا وإيران على الساحة الدولية يعتبر جهداً أساسياً في هذا الاتجاه، وأنّ ما قامت به سورية من إصرار على الثوابت ومحاربة الإرهاب ساهم، ولا شك مع جهد الحلفاء والأصدقاء، في دفع هذا التوجه قدماً إلى الأمام.
ومن خلال متابعتي لهذ الدورة للجمعية العامة لم ألمح أثراً “للإرادة الجماعية العربية” التي يتحدث عنها أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط في تناوله للشأن السوري في إحدى مقابلاته . فقد كانت الدول العربية في الماضي تعقد اجتماعات قبل أو خلال انعقاد الجمعية وتتفق على القضايا الجوهرية التي تعتزم طرحها، كما تتبادل الآراء والاستنتاجات بعد لقاءاتها مع دول مختلفة. أما اليوم فلا يجد أمين عام جامعة الدول العربية إرادة جماعية عربية إلا في الموقف من سورية، وهو موقف سلبي طبعاً، ويصبّ في خانة كلّ من يستهدف سورية ويعمل على إضعافها. بل ويذهب أكثر من ذلك بأن سورية الجديدة التي يتوخاها أبو الغيط لن تكون على علاقة طيبة مع إيران، معتبراً هذا شرطاً عربياً رئيسياً لكي يسمح لسورية بالعودة إلى الجامعة العربية. وكأنّ أبو الغيط لم يسمع بتضحيات الشعب السوري والتي بُذلت بسخاء للحفاظ على كرامة سورية وقرارها المستقل، وكأنه لم يشهد ثماني سنوات من محاولات مستميتة لإخضاع سورية كي تدور في الفلك “الصهيوأميريكي”، ولكنّ كل هذه المحاولات باءت بالفشل وانتصر الشعب السوري بإرادته المستقلة وحرصه على تاريخه وحضارته وكرامته.
مثل هذه التصريحات وغيرها كثير تُري أن الدروس المستفادة من التجارب المُعاشة لم تختمر بعد في الأذهان ولم تُؤت أكلها ولم تتحول إلى رؤى جديدة للواقع والمستقبل. وهذا ينطبق على كلّ الاعتراضات التي عبرت عنها وفود دول كثر حول أسلوب العقوبات الأميركي والتعامل الغربي مع بقية دول العالم والذي فقد تأثيره اليوم، والبحث جار عن أساليب حقيقية تستجيب لمتطلبات الشعوب في الحفاظ على كرامتها وسيادة دولها وخصوصية هويتها الحضارية والثقافية. سوف يستمر هذا البحث للسنوات القادمة، ولكن كلما سارعت الدول للانضمام إلى مسار الصين وروسيا في خلق أسلوب جديد للعلاقات السياسية والاقتصادية والفكرية والإنسانية كلما وصل العالم إلى المحطة المنشودة بسرعة أكبر وتكاليف أقلّ. تبقى هذه المرحلة مرحلة صعبة في تاريخ البشرية سواء على الصعيد الدولي أو على صعيد كل دولة على حده، لأنها مرحلة انتقالية وتحتاج إلى قيادات حكيمة وصادقة وشجاعة، وللأسف فإن هذه المعايير نادرة اليوم ولذلك علينا أن نقف مع أي قيادة في العالم تتمتع بمثل هذه المعايير وتعمل على إرسائها. في هذا المخاض لابدّ وأن تلعب النخب الفكرية دور المرشد والموجّه والدارس والناصح أيضاً، وأن يكون الصبر والأمل والعمل الأدوات الأساسية لهذه النخب في كلّ مكان. اليوم مستقبل البشرية برمته على المحك ولابدّ لكل إنسان في أيّ مكان أن يشعر أنه معني وأن يساهم بقدر ما يستطيع بصياغة هذا المستقبل بما يضمن أمن وسلامة وازدهار العالم. وعلّ قول الكاتب المسرحي السوري، سعد الله ونوس، منذ عقود صالح جداً لهذه المرحلة وهذا التوقيت إذ قال: “إننا محكومون بالأمل ولا يمكن لما يجري أن يكون نهاية التاريخ”، عجلة التاريخ مستمرة في الدوران وعلينا أن نحكم قيادتها بمعرفة واتزان.