حين راقبنا نيراناً ضخمة تندلع في برجَي التجارة العالميين في نيويورك في 11 أيلول من عام 2000، كان التساؤل المطروح مباشرة من قبل الحاضرين “كيف لم تستطع قوات الإطفاء الأميركية إخماد هذا الحريق”؟ غير مدركين أن الدخان الذي نرقبه في تلك اللحظات على الشاشة سوف يلفّ العالم إرهاباً وحروباً ورائحة موت، ومندرجات على المستوى العالمي لم تكن لتخطر على بال إلا شياطين الغرب المتصهين.
وتابع البشر في أركان المعمورة هذا الحدث الجلل محاولين فهم حقيقة ما جرى وأسبابه وموجبات ردود الفعل عليه، والتي بدت في أحايين كثيرة منفصلة تماماً عن الحدث نفسه، إذا لم تكن تصبّ في الاتجاه المعاكس الذي يشجّع ويغذي مثل هذه الأحداث الخطيرة المدمّرة.
وإلى حدّ اليوم، وبعد أربعة وعشرين عاماً، لا أحد يعرف إلا قلّة قليلة ربما حقيقة ما جرى والمخططين والمنفذين الحقيقيين؛ لأنّ نتائج البحث والتحقيق وُضعت في صناديق سوداء مظلمة، وتمّ اتخاذ القرار ألا يتمّ فتحها إلا بعد ستين عاماً، أي بعد أن يمضي هذا الجيل الذي عاش الحدث بتفاصيل وقوعه وكوارث نتائجه.
ولكنّ الشيء الثابت هو أن ردود الأفعال الأميركية انصبّت على تحقيق أهداف أخرى بعيدة كل البعد عن معالجة الأسباب معالجة جذرية لمنع مثل هذا الحادث الخطير في أي مكان في العالم. وأشهر ردة فعل على هذه المعالجة هي تصريح وزير الدفاع الأميركي الأسبق ويسلي كلارك، الذي نشر بالصوت والصورة فحوى مجادلته مع دونالد رامزفيلد الذي أفاده بأنهم سيقومون بغزو العراق كنتيجة لهذا الحادث. فأجابه كلارك: العراق، ولكن ما دخل العراق، لم يكن أي عراقي متورطاً في هذا الحادث؟ قال له هذا هو القرار الذي تمّ اتخاذه وسنقوم بغزو العراق.
خلال تلك الفترة، وبعد تفجير البرجين بساعات وأيام، بدأ التركيز على تورط الإسلام والمسلمين والعرب منهم، خصوصاً من قال حسب ادعائهم بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من كان يقرأ القرآن ومنهم من ينتمي إلى مجموعات إسلامية أو يحمل جنسية بلد إسلامي، وبدأت موجة عالمية من رهاب الإسلام والمسلمين والتعرّض حتى لمن يتحدث اللغة العربية ويلبس رداءً أو حجاباً إسلامياً، وسخّروا الإعلام الغربي لنشر عبارة “الإرهاب الإسلامي” وتثبيتها في أذهان الناشئة، وقسّموا العالم في نظرهم إلى قسم غربي متحضر وقسم إسلامي (عربي) صبّوا عليه جام حروبهم وتدميرهم واحتلالهم وإبادتهم في الميادين كافة، في ظاهرة ما زالت ممتدة ونشطة حتى يومنا هذا عُرفت “بالإسلاموفوبيا” عانى وما يزال يعاني منها مئات الملايين من البشر في أمم وشعوب وبلدان في مختلف أصقاع الأرض، من دون أي وجه حق أبداً.
ولكن، تحت هذا الغطاء المضلِّل، تمّ احتلال أفغانستان وتدمير العراق فخر الحضارة العربية، وتدمير اليمن وليبيا وتقسيم السودان وإطلاق حرب إرهابية قذرة على سوريا هدفت إلى تدميرها. وفي المقابل، شد أزر الصهيونية وتبرير الوقوف مع كل ما تفتقت عنه أذهان الصهيونية من إجرام، وتقديم الغطاء الغربي والمال والسلاح لهذا الإجرام تحت الشعار الزائف والكاذب “الحق في الدفاع عن النفس”.
وتحت هذا الغطاء، وعلى هذه الخلفية التاريخية المضطربة والخبيثة، شنّت “إسرائيل” حرب إبادة منذ عام على فلسطين، كل فلسطين، ارتكبت فيها أنواعاً شنيعة من الإجرام لم تعرف له البشرية في العصر الحديث مثيلاً. وتنادى القادة الغربيون إلى وكر الإجرام ليعلنوا أنهم مع المجرمين، وليقوموا بعشرات الزيارات لهم، وليستقدموا بوارجهم الحربية ليوفروا كل غطاء ممكن لاستمرار القتل والإبادة، وإرهاب الآخرين من مدّ يد العون إلى المظلومين والمستباحين. وسقطت في نيران هذا العدوان كل ادعاءات الغرب بحماية حقوق البشر وكرامتهم وحياتهم. كما سقط معها كل الإسلامويين الذين عاقب الغرب كل المسلمين بسببهم، فلم يرفع أحد منهم صوته لنصرة فلسطين، ولم تظهر لديهم أي بادرة من بوادر الحميّة الإسلامية التي أسقطها الغرب عليهم لغاية في نفس يعقوب.
إلى أن فتحنا أعيننا على يوم السابع عشر من أيلول لنشهد إرهاباً صهيونياً يستهدف المدنيين والآمنين في لبنان، من خلال تخطيط وتدبير يهدف إلى قتل أناس في منازلهم وفي أماكن عملهم وعلى طرقاتهم دونما تهمة أو محاكمة، ومن خلال استغلال وحشي وخبيث للتقنيات والتعاون مع شركات باعت ضميرها وشرفها المهني والأمانة العلمية المؤتمنة عليها لتصبح شريكة في افتراس الناس والقضاء على حياتهم البريئة، من دون أي وجه حق.
والفرق الملحوظ والمفجع هنا في ردود الأفعال؛ فمع أن كارثة 17 و18 أيلول التي نفذها الصهاينة بحق الإخوة اللبنانيين لم تميّز بين مسلم ومسيحي أو امرأة ورجل وطفل، تماماً كما تشهد مجازرهم في فلسطين، فإن أقصى ما تفضل به النظام العالمي هو التعبير عن القلق، والتزم الصهاينة والغرب الصمت تماماً، وامتنعوا حتى عن إدانة جرائم القتل البشعة هذه، ولم يصفوا هذا الإرهاب المدبّر بالإرهاب أبداً؛ لأنهم حجزوا صفة الإرهاب للإسلام والمسلمين، وامتنعوا عن استخدامها في وصف أبشع وأخطر أنواع الإرهاب الذي تمارسه الصهيونية من خلال حكومة و”جيش” وهيئات وأدوات منظمة يشرّع عملها الغربيون “حق الدفاع عن النفس”، أي حق القتل والضرب والتهجير والتشريد في أي مكان تشاء.
ولا توجد في سرديتنا هذه أي إشارة ضمنية للسير على خطاهم المغلوطة، ووصف الإرهاب الذي يقوم به الكيان الغاشم بالإرهاب اليهودي، على عكس ذلك، هي دعوة إلى تبرئة الأديان السماوية كلها وأتباعها الصادقين المؤمنين من هذه الصفات الظالمة التي سبغها عليهم أصحاب المصالح الاستعمارية، وأصحاب المصالح السياسية الرخيصة والمؤقتة. والحجج الداعمة هنا أكثر من أن تحصى فالعيش المشترك الهانئ المسالم المنتج لتلاقح الحضارات والطاقات البشرية كان السمة الأساسية التي تمتع بها اتباع الديانات الثلاث، وعاشوا في منطقتنا وبلداننا إخوة متحابين لا فرق بين عربي وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
والمثل الأقرب الذي نستقيه من ردود الأفعال على الإجرام الصهيوني في غزة والضفة هو موقف النخب اليهودية المشرّف الذي دان هذه الأحداث، ووقف ضدها في مقدمة المستنكرين لها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، نعوم تشومسكي وجون ميرشمير وسارة فريدلاند وإيفي شلايم وعشرات من المفكرين اليهود وآلاف من الطلبة اليهود الذين وقفوا لنصرة الحق والمظلومين والواقعين تحت وطأة احتلال واستيطان وإجرام وحشي. وها هي سارة فريدلاند اليهودية الأميركية تهدي فوزها في مهرجان فينيسيا للاحتجاج على “الإبادة في غزة”. هذه المرأة الشجاعة وقفت لتثبت للعالم أن الإرهاب لا دين له، وأنه مُدان في الديانات السماوية والقوانين الإنسانية والوضعية وفي أبسط قواعد الحياة البشرية السلمية.
إنّ أول نتيجة يجب أن تهدّئ أرواح شهداء 17و18 أيلول وتداوي جراح مئات بل آلاف الجرحى منهم هو أن تتمكّن ردود الأفعال الغربية والعالمية من وضع حدّ للكذبة الكبرى التي نجمت عن أحداث 11 أيلول، والتي اتهمت ديانة بعينها وأتباعها بالإرهاب، وأن يتم التوافق عالمياً على تعريف الإرهاب وإدانة ومعاقبة كل من يمارسه، سواء أكان فرداً أو عصابة أو هيئة أو كياناً، وأن جهود النخب والمفكرين والحريصين على الأمن والسلامة وكرامة الإنسان يجب أن تصبّ اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى في نبذ العنصرية والطائفية وتوحيد جهود أتباع الديانات والمؤمنين بالسلام على الأرض، وهجر المداهنة والمساومة الطامحة إلى تحقيق مصالح أو الخائفة من إرهاب القوة.
لقد سقطت كل مندرجات 11 أيلول 2000 في 17 و18 2024 فلنقلب الصفحة ولنبدأ بداية مختلفة وغير مسبوقة يحتاجها عالم اليوم بشدّة.