لقد أصبح واضحاً بعد حوالي أسبوع من عدم صدور نتائج الانتخابات الأمريكية أن المهم في هذه الانتخابات قد اختلف جذرياً عمّا كان يعتبر مهماً دائماً في الانتخابات السابقة كلها؛ إذ كان السؤال الأهم دائماً هو من الذي سيسكن البيت الأبيض؟ مع كلّ ما لهذا السؤال من تبعات على الحياة الحزبية والديمقراطية والقانونية والمستقبلية في الولايات المتحدة، وعلى أي بلد سيشن هذا الرئيس الحرب ؟ فلكل رئيس أمريكي حربه من أجل تشغيل مصانع السلاح. إلا أن السؤال اليوم قد تحوّل ليصب على مصير الولايات المتحدة ذاتها ومستقبلها بعد أن برهن الإقبال الكبير وغير المسبوق على الانتخابات في الولايات المتحدة أنه دليل انقسام حاد في المجتمع الأميركي ودليل خوف غير مسبوق على كلتا الضفتين وليس دليل عافية وتماسك ووحدة وطنية في البلاد؛ فمازال عدّ الأصوات جارياً وما زالت ادعاءات كل طرف أنه هو الفائز، أو الدعاوى القانونية التي يقيمها ترامب والاستعدادات العسكرية في مناطق عدة والمناوشات بين الناخبين، مازال كل هذا هو سيد الموقف ومازالت التحليلات والتوقعات متفاوتة بشأن اليوم التالي أي اليوم الذي يلي إعلان النتائج إذ لا أحد يعلم ماهي الارتدادات في الشارع الأميركي وأي مستقبل ينتظر أميركا أو ينتظر النظام الغربي برمته.
وإذا ما ترفعنا عن تعقيدات الحدث التي تشغل المشهد اليوم نجد أن ما وصل إليه الوضع في الولايات المتحدة من انقسام وفرقة هو نتيجة طبيعية لأمرين اثنين: الأول أن إيمان البعض في الولايات المتحدة بمفهوم الاستثنائية الأمريكية وأن الولايات المتحدة تقدم نموذجاً فريداً لا يرقى إليه أي نموذج في العالم قد شكّل أساساً للعنصرية داخل الولايات المتحدة وخارجها أيضاً في تعاملها مع القضايا الدولية. والأمر الثاني هو أن الولايات المتحدة والتي كانت أساسية في صياغة النظام الدولي والشرعة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بدأت بهدم ما بنته مع دول أخرى لبنة لبنة ونكصت حتى على قرارات صوتت هي عليها في مجلس الأمن كقرار ضمّ الجولان الذي صوتت هي عليه على أنه باطل ولاغٍ لتعود اليوم وتعترف بضم كيان الاحتلال للجولان في تصرف غير مسبوق ، أضف إلى نكوصها عن عشرات من القرارات الدولية بشأن القدس وهو حق الفلسطينيين في أرضهم وديارهم وحقهم في العودة، وانسحابها من توقيعها على الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية المناخ وعشرات الاتفاقيات العسكرية والمدنية مع روسيا والصين وأوروبا وأميركا الجنوبية.
والمشكلة في كل هذه القرارات والتصرفات هو أن الشعور المتجذر بالاستثنائية والتفوق لدى الولايات المتحدة قد خلق لديها نوعاً من الوهم أنها محصنة ضد أي أذى ينجم عن تصرفاتها هذه وأنها تستطيع أن ترمي العالم برمته بسهامها ولكن لا يمكن لسهم أحد ان يطالها مهما بلغ من القوة أو الذكاء؛ أي أنها بذلك وضعت نفسها فوق معيار الأسرة الإنسانية ومصلحة البشرية ظناً منها أن مصلحة الولايات المتحدة يمكن أن تتحقق إذا ما وُضعت في تناقض كامل مع مصالح الأسرة البشرية برمتها وهنا مكمن الخطأ القاتل؛ إذ مهما بلغت الولايات المتحدة أو أي دولة من قوة عسكرية أو مالية أو سياسية فلاشك أنها محكومة بما يحكم الأسرة الإنسانية جمعاء ولاشك أن خيرها أو تعثرها هو جزء لا يتجزأ من خير أو تعثر بقية دول العالم. وعلّ الخطأ الأكبر بدأ بعد احداث الحادي عشر من أيلول حيث اتخذ القرار بشن الحرب على الإسلام والدول الإسلامية من أفغانستان إلى العراق ومن بعدها دول الربيع العربي من ليبيا إلى مصر وسورية واليمن ولبنان ودائماً مع محاصرة إيران ومؤخراً مع إثارة كل مشكلة ممكنة مع الصين. إذا كان عدد المسلمين يبلغ مليار وأربعمائة مليون مسلم فهل من الحكمة أن تُفتح خطوط النار ضد كل هؤلاء وعقيدتهم ودولهم ومصالحهم وأن يتم خلق كل أنواع العداء ضدهم بسبب حفنة من المجرمين المرتبطين أساساً بالولايات المتحدة الأمريكية وبحركات إرهابية مسلحة ومدربة وممولة من قبل المخابرات الغربية ولا علاقة لإجرامهم بدين أو عقيدة او مبدأ لأن كل الأديان السماوية والقواعد الأخلاقية في جميع بلدان الأرض نهت عن القتل والتخريب والعنف ، وهل أبلغ من قول الله عز وجل في كتابه الكريم “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ” وهل يعقل أن تتم محاسبة أتباع دين بأكمله وأن تفرض عليهم جميعاً عقوبات مجرمة بسبب حفنة من المجرمين من إنتاج أجهزة مخابرات صاغت ونفذت مثل هذه الأحداث لأهداف سياسية بعيدة المدى بدأت تظهر نتائجها اليوم بعد قرابة عقدين على البدء في تنفيذها؟ ما كان يحتاجه العالم ومازال بعد كل عمل إرهابي أو جريمة أو استهداف لأي منشأة أو مجموعة في أي بلد هو عزل هؤلاء المنفذين عن الدين المجتمع والدولة التي انحدروا منها والتعامل معهم فقط كجناة، ومدّ يد المحبة والتعاون والتكامل لأبناء ذلك الدين في كل مكان في العالم لأن الأديان السماوية كلها تشترك في نشر قيم المحبة والمساواة والعمل الصالح وقد أكدت الكتب السماوية جميعها على كرامات جميع الرسل ومكانتهم لدى الخالق والمرسِل ” لا نفرق بين أحد منهم” ؛ فمن أين استقى البعض هذه الفوقية التي يعبرون عنها نتيجة اللون أو العرق أو الدين أو الموقع الجغرافي والجيوسياسي أو حتى القوة العسكرية والاقتصادية، القوة التي يجب أن تكون حارساً لإحقاق الحق وليس سيفاً مسلطاً على الضعفاء وعوناً للطغاة والمحتلين والمستوطنين والمستعمرين لابتلاع حقوق من لاحول ولا قوة لهم بقوة السلاح. وتميزت الدولة الأمريكية القوية الغنية في عهد ترامب بنهب نفط سورية وحرمان الشعب السوري من ثروته في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من العالم برمته مما يفضح ادعاءات الاستعلاء الأخلاقي للولايات المتحدة فهي سارق دولي لحقوق الآخرين في أرضهم وثرواتهم. وهل يعقل أن تسخّر الولايات المتحدة قوتها لتكون سنداً لاحتلال بغيض مجرم يهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها ويعبث بحياة البشر سجناً وأسراً وإبعاداً وقتلاً وتنكيلاً ؟ ما الذي تركته إذاً لنفسها من أدوات القوة الأخلاقية والقيمية التي تستطيع أن تؤثر بها على نظم الحكم الأخرى في العالم ؟ وهل يعقل أن يقوم الأسير ماهر الأخرس بالإضراب عن الطعام لمئة وثلاثة أيام احتجاجاً على ظلم غير مسبوق دون أن نسمع إدانة واحدة من مسؤول أمريكي أو غربي على أساليب الاحتلال الإسرائيلي المجرمة بحق الأسرى والفلسطينيين بشكل عام؟ لو تعرض أي إسرائيلي لجزيئة مما تعرض له ماهر الأخرس وبقية الأسرى والشباب الفلسطيني ماذا نتخيل أن تكون ردة الفعل في العالم وكيف ستملأ صوره صفحات كل الصحف والشاشات في الغرب.
وماذا يمكننا أن نسمي إهمال معاناة الفلسطيني وعدم ذكرها سوى عنصرية واضحة وأن حياة العربي لا تساوي في أنظارهم حياة الإسرائيلي أو الغربي؟ لا تفسير آخر لهذه الظاهرة المتكررة التي أصبحت أسلوب تصرف وحياة لدى معظم الدول والحكومات الغربية؛ أي أن الاستثنائية التي يشعر بها الأميركي الأبيض ضد الأمريكي الأسمر البشرة هي ذاتها العنصرية التي يطبقها كل هؤلاء وخاصة المحتل الإسرائيلي ضد حياة الفلسطيني والعربي. وها هو ماهر الأخرس يبرهن للعالم أن قوة الإرادة أهم وأمضى بكثير من قوة المال وسلاح الاستيطان وأنه استطاع بعزيمته الصلبة وإرادته الوطنية الحرّة ان يكون حرّاً ورغم وجود السجانين حوله داخل جدران احتلال بغيض. لا شك أن انتصاره يخزي كل المهرولين والمطبعين والمتنازلين عن الحقوق العربية دون أي ثمن على الإطلاق ودون أي ورقة حصلوا عليها لإنقاذ ماء وجههم على الأقل من اتفاقات مذلة. وفي النتيجة وبغض النظر عمن يسكن البيت الأبيض في العام 2021 فالمهم هو ان يقرأ الأمريكيون جميعاً خلاصة الدرس الذي وصلت إله بلادهم وهو أنهم بحاجة قبل غيرهم إلى نشر وعيش القيم الأخلاقية في السياسة وأنه لا يمكن لهم أن يشعلوا أوار النار حيثما تمكنوا من فعل ذلك وأن يبقوا هم في مأمن من لهيبها وحريقها.
هذه الانتخابات الأمريكية دقت ناقوس الخطر للأمريكيين أنفسهم وبرهنت أن لعبة الانتخابات تتحكم بها اللوبيات التي تحكم الولايات المتحدة وليس الحزب الديمقراطي والجمهوري ؛ فهل يعيد الأمريكيون قراءة نهجهم السياسي لما فيه خيرهم وخير البشرية أو هل سيتمكنون من فعل ذلك بعد هذه التجربة التي تستحق الدراسة والتمحيص واستخلاص الدروس والنتائج؟