هذا فراق بيني وبينك
سأل مندوب روسيا لدى مجلس الأمن في مداخلته المتعلقة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، الإدارة الأميركية عن الأسباب التي ساقتها إلى اتخاذ هذا القرار، وقال: لقد استوضحنا من الإدارة الأميركية عن أسباب هذا القرار، لكننا لم نتلقّ جواباً.
كيف له أن يتلقى جواباً من مبعوثة الولايات المتحدة التي حفلت مداخلتها بالمغالطات؛ فقد شدّدت على معاداة الأمم المتحدة لإسرائيل، مع أن الأمم المتحدة هي التي أصدرت القرار 181، الذي أعطى الصهاينة الأوروبيين أرضاً ليست أرضهم، وحرمت المدنيين من الفلسطينيين من وطنهم ودولتهم، وأنزلت الولايات المتحدة بهم داخل السجن الإسرائيلي.
مع ذلك، يبقى سؤال المندوب الروسي جديراً بأن يُطرح، حتى وإن عجزت عن الإجابة عنه الإدارة الأميركية، فمن المفيد أن نبحث في الأسباب التي قادت ترامب إلى اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت، والبحث لا يقتصر على أروقة البيت الأبيض أو وزارة الخارجية الأميركية أو البنتاغون، بل يجب البحث أيضاً في العوامل الأخرى ذات الصلة بهذا القرار، كما يجب العودة في التاريخ إلى متغيّرات هذا الصراع، والطريقة والمقاربات المختلفة للأطراف، ومثل هذه العودة والمكاشفة، تتطلّب إيماناً وجرأة وثقة بالنفس والمستقبل، كما تتطلّب التخلّي عن أساليب عمل مازال البعض يعمل على اجترارها منذ عقود، رغم أنها أثبتت عدم جدواها، بل فشلها المطلق.
الميّت موجود ومعروف وموصوف، لكن لا أحد يريد دفنه، الميت في هذه الحال هي آليات وأساليب العمل التي اتبعها العرب منذ أن بدأ تآمر الصهاينة للاستيلاء على فلسطين، وقصور هذه الآليات وفشلها أصبحا معروفين لدى أغلبية العرب، وخصوصاً إذا ما قورنت بالتخطيط المسبق والتفكير الممنهج والعمل الدؤوب الذي قام به أعداؤنا ليقلبوا الحقّ باطلاً والباطل حقّاً في عيون وضمائر العالم، لا بل أيضاً العمل المخابراتي للاستيلاء على حكم العديد من الدول العربية، وخاصة في الجزيرة العربية عبر عملائها من الخونة.
ولأنّ تاريخنا مليء بالمجاملات والألوان الرمادية، فنحن لم ندرّس أبناءنا التاريخ الحقيقي، وبقينا على مدى عقود نستوعب النكسة بعد النكبة، ونضع اللوم على العدوّ والمؤامرة من دون أن نفتح دفاترنا نحن، لنكتشف أين أخطأنا وأين أصبنا، ولنحاول على الأقل تجنّب العثرات التي قادتنا إلى الخطأ والخيبة.
أما وقد ذهب ترامب، المعروف بالتهوّر والتصهين المتطرّف، إلى هذه الخطوة التي هي مساس صارخ بأقدس مقدّسات العرب والمسلمين، فلا بدّ من وقفة حقيقية بعد ذلك وخاصة أنّ هذه الخطوة تلت قتل وتدمير وتهجير وإذلال الملايين من شعب فلسطين بأكمله، وأتت بعد حروب على بلدان عربية عديدة، وتفتيت بعضها، وقتل قادتها، والاستهانة بمصير الملايين من شعوبها، وقبيل إعلان قراره العنصري بمنع العرب من بلدان عربية دخول الولايات المتحدة، علماً أن هذه الدول هي التي تقارع الإرهاب مما يعتبر انحيازاً كاملاً لتعريف إسرائيل للإرهابيين على أنهم عرب ومسلمون ومقاومون للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
هذه القرارات المتزامنة تعني أننا كعرب قد وصلنا نهاية هذا الطريق الذي سلكناه منذ مئة عام، والنهاية بشعة ومذلّة ومخزية للعرب جميعاً، فإما أن نستدير استدارة حقيقية وجريئة واعية ومدروسة، ونعلن الفراق مع كلّ مداهنات التاريخ الماضي، ونبدأ بداية سليمة على الأسس العلمية التي جربتها الشعوب المنتصرة، وإما أن نكون في مرحلة تيه لا نعلم إلى أين ستؤدي بنا.
إنّ الاستمرار بأساليب الماضي أمر محكوم عليه بالفشل سلفاً، وهو معروف النتائج قبل أن يبدأ: غضب، فتحركات شعبية، وصمت رسمي مع بيانات مقتضبة، فعودة إلى المنازل والعيش مع القرار ونتائجه، إلى أن يتوصّل أعداؤنا إلى ما هو أسوأ منه، فننتفض ثانية لأيام، ونستوعب الصدمة، ونمضي وكأنّ شيئاً لم يكن.
هذه الردود الآنية الارتجالية لم تعد تجدي نفعاً، ولا تصنع تاريخاً، ولا تعيد حقوقاً، كما أن كيل التهم للآخر بالعنصرية والإجرام والإرهاب والعدوان لا يعيد الحقوق المسلوبة، بل يجب أن نعيد قراءة ما فعله العرب في المحطات الأساسية، ونعيد تقييمه، ونتخذ موقفاً منه وممن صنعه، وننطلق في طريق آخر يخطّط له الإستراتيجيون الشرفاء، ويرسمون معالمه الأساسية عقوداً قبل أن يبدأ.
لقد كان اتفاق «سيناء 2» بين مصر وإسرائيل، وملحقاته بين إسرائيل والولايات المتحدة أكبر خطرٍ على العرب من نكسة 1967، ومع ذلك نادراً ما يتمّ تسليط الضوء على هذا الاتفاق في كتب التاريخ، وكان «كامب ديفيد» كارثياً على العرب، أما اتفاق أوسلو فقد فتح باب العلاقات الدولية بين إسرائيل ودول العالم على مصراعيه، إذ اعتبرت عشرات الدول أن السلام قد حلّ بين إسرائيل والفلسطينيين، وأقامت علاقات مع إسرائيل، أي إن اتفاق أوسلو قد كسر عزلة إسرائيل الدولية، ورفع عدد الدول التي تقيم العلاقات معها إلى أرقام لم تكن تحلم إسرائيل أن تنجزها بعد مئة عام.
إن أعداءنا يخططون ويولون اهتماماً كبيراً لعاملين اثنين أغفلهما العرب على مدى تاريخهم، ألا وهما: التخطيط المسبق وعامل الزمن. فالإسرائيليون يخططون لمئة عام قادمة، على حين تتصف أعمالنا بردود الأفعال، كما أنهم يقيمون للزمن وزناً خاصاً، فلا تريّث ولا تأجيل ولا إهمال، وإذا أردنا أن نفهم لماذا وصل الأمر إلى هنا، فعلينا أن نفهم جيداً أساليب العمل التي استهدفتنا، وأساليبنا في الردّ عليها، وأن نجري تقييماً دقيقاً لكلتا الحالتين، وأن نضع الخطط التي تردم الثغرات وتزيل الهنات والعثرات.
إذاً، قرار ترامب اليوم، وهو المعروف بصهيونيته المتطرّفة وعدائه للعرب، متعلّق بالوضع العربي المتردّي، تماماً كما هو متعلّق بنشاط الصهاينة في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع والكونغرس، ومستند إلى موافقة حكّام السعودية ودول الخليج، وربما دول عربية أخرى معروفة بتبعية حكامها للغرب، التي حصل عليها سلفاً قبل الإعلان.
كي نتمكّن من أن نجعل هذا القرار حبراً على ورق، ومن قرار منع مواطني دولنا من دخول الولايات المتحدة فضيحة عنصرية يندى لها جبين الولايات المتحدة، علينا أن نعلن الفراق مع أساليب العمل البائسة، ونعتمد أساليب عمل جديدة صادقة وفعّالة، وذات رؤية مستقبلية مع مواعيد محدّدة البدء ومحدّدة الانتهاء ومحدّدة الأهداف، وعلينا أن نقول لأساليب العمل العربية الماضية: هذا فراق بيني وبينك، وننتج أساليب وآليات عمل قادرة على مواجهة التحدّيات، وآخذة بعين الاعتبار قدرة الأعداء وأساليبهم، ومتسلّحة بالحقّ والعلم والعمل الدؤوب القادر الهادف، وليس بالحقّ وحده والتهليل له من دون امتلاك أدوات إثباته وتثبيته على أرض الواقع.
لقد بلغ السيل الزبى، وبلغ الطغيان منتهاه، ولا سبيل اليوم لمقارعته إلا بعقل وإرادة وأسلوب جديد وجدير برسم سبل غير معهودة لنصرة الحقّ وإرساء دعائمه في قلوب وضمائر الأجيال واستعادته ولو بعد حين.