قالت محدثتي: “لقد اعتزلتُ القراءة والكتابة بعد كل الدراسات والشهادات والأبحاث والتعلّم والتعليم وبعد كل السنوات التي أمضيتها في رحاب الجامعات أدرّس وابحث وأفنّد المفاهيم والأفكار وأفاضل بين السرديات معتقدة أنني أحقق انتصارات وإنجازات في صياغة أذهان هؤلاء الطلبة وأنهم بعد حين سيحملون الرسالة ويحدثوا فرقاً هائلاً في العالم الذي نعيش فيه. ولكنني اليوم وبعد عام ونيّف من معايشة واقع من مناظير مختلفة وحضور حرب إبادة وحشية عنصرية متعددة الأوجه على الشاشات وفي السرديات الإعلامية والفكرية الغربية التي كانت تتشدق بحقوق الإنسان والطفل والمرأة وخوض مقارنات تحتاج إلى دقة متناهية لفرز الغث من السمين والوصول إلى قرارة ما يجري فعلاً قرّرت أن كلّ ما توخينا تحقيقه بلغات مختلفة كان سراباً أمام واقع استعماري متوحش شرس تختلف حساباته واعتباراته جذرياً وكلياً عن أي شيء تعلمناه أو علّمناه او ارتكزنا عليه من الحضارة والإنسانية في ما نقول ونفعل” .
حاولتُ أن أثني محدثتي عن قرارها مستعيدة أهمية الكلمة والنص والسردية والعقيدة والفعل ومتجاوزة حلكة ما يبدو اليوم من أحداث وحشية، ومتطلعة إلى خواتم تليق بالنوايا الصالحة والجهود الطيبة وظننت أنني بلوت بلاء حسناً إلى أن قرأت مقالاً في الناشنال إنترست 15/10/2024 بعنوان “حروب عادلة وغير عادلة في فلسطين” بقلم البروفيسور جيرومي سلاتر مؤلف كتاب: “أساطير دون نهاية: الولايات المتحدة والصراع العربي-الإسرائيلي 1917-2020″، وما إن انتهيت من قراءة هذا المقال الشيّق حتى تذكرتُ محدثتي واعتقدت أنه ربما هي المحقة وانه عليّ أن أعيد النظر في ما قلته وأقنعتها به.
يبدأ الأستاذ سلاتر مقاله بالتأكيد على أن مايكل والتزر يُعتبر بحق المفسّر الأهم لفلسفة أخلاقية الحرب العادلة؛ إذ لا يمكن لأي تحليل جاد لهذا الموضوع أن يتجاهل كتابه الأساسي والمتميّز لعام 1977 بعنوان: “حروب عادلة وغير عادلة” ولكن ولسوء الحظ يقول سلاتر، كما لاحظ عدد من الفلاسفة الجديين فإن والتزر كان متمنعاً من أن يطبّق تحليله على التصرف الإسرائيلي وخاصة بالنسبة للفلسطينيين. وبعد أن يناقش سلاتر مقال ولاتزر في النيويورك تايمز بعنوان: “قنابل إسرائيل في البيجرز لا مكان لها في حرب عادلة” ويفنّد سلاتر مقولات والتزر عن حرب إسرائيل ضد حماس في غزة ومكان المدنيين في هذه الحرب ليصل إلى عبارة والتزر “جرائم الحرب المزعومة” بعد كل ما شاهده العالم من قتل وإبادة وتهجير وتجويع للملايين من المدنيين الأبرياء يصف والتزر جرائم إسرائيل الوحشية بالمزعومة، وبعد نقاش مفصل وجدي ودقيق يصل سلاتر إلى الاستنتاج التالي:
“باختصار فإن انتقادات والتزر الخجولة للهجوم الإسرائيلي على غزة في النتيجة تؤدي على الأقل إلى التغطية على الإجرام الإسرائيلي الشنيع. أما نحن المعجبون بفلسفة والتزر الأخلاقية مصدومون برفضه الطويل والمتكرر أن يقيّم تصرّف إسرائيل وفق تلك الفلسفة “.
هذا بالذات كان موضوع الكتاب الجماعي الذي شارك به نخبة من المفكرين العرب بعنوان: “المثقفون الغربيون وأحداث غزة: قراءات في موقف الإنتلجينسيا الغربية من القضية الفلسطينية” الصادر عن (دار الكتب العلمية 2024) حيث عبر هؤلاء الكتاب ومعظمهم من الدارسين في الغرب والمتعمّقين والمتبحرين بدراسة الفلاسفة والمفكرين الغربيين عن خيبة أملهم من البون الشاسع بين ما نصّت عليه كتب وإصدارات أساتذتهم وزملائهم وبين مواقفهم اتجاه الإجرام المطلق وحرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني حيث انضوت مواقف هؤلاء الكتاب والفلاسفة والمفكرين تحت مواقف حكوماتهم المتصهينة ولم تصدر عنهم المواقف التي ترتقي إلى مستوى التنظير والسرديات التي عملوا على نشرها وتثبيتها في أذهان الدارسين على مدى عقود.
أتوقف عند ما صدر عن المثقفين والمفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه أسوأ حرب إبادة شهدها العالم في القرن الحادي والعشرين لأن آراءهم هامة في حرب متعددة الأوجه يلعب الإعلام والفكر والسرديات والمفاهيم فيها دوراً هامّاً جداً في صياغة الرأي العام وحتى في مواقف الأمم والمنظمات الغربية من هذه الحرب. فالترويج الإسرائيلي لفكرة القضاء على حماس وحزب الله وإخراج أحداث أوكتوبر وما سبقه وما تلاه من سياقها التاريخي وطرح أهداف مناقضة لمنطق التاريخ وتجارب الشعوب يعتبر جزءاً من الحرب النفسية والفكرية والمفهوماتية ليس على فلسطين فقط وإنما على الأمة العربية برمّتها وعلى تاريخها وحضارتها ومستقبلها. وعلى سبيل المثال لا الحصر لم أقرأ ولو مرة واحدة أن كل من تستهدفهم القنابل والطائرات الإسرائيلية الأمريكية الصنع في غزة والقطاع هم لاجئو عام 1948 الذين هجّرتهم العصابات الإرهابية الصهيونية من عكا وحيفا ويافا وأريحا وكل المدن والبلدات الفلسطينية فأقاموا مخيمات لهم في غزة وعاشوا فيها منذ 75 عاماً محاصرين براً وبحراً وجواً تحت ربقة احتلال إرهابي غربي ظالم مهين وأن مخيمات جنين وجباليا وطولكرم ورفح وكل المخيمات التي يقصفها الإسرائيليون يومياً منذ أكثر من عام إنما يقتلون سكانها الذين أجبروهم على النزوح والهجرة من بقعة أخرى من أرض فلسطين منذ عام 1948 إلى هذه المخيمات، والآن وبعد مطاردتهم وقتلهم وتجويعهم لا مكان آخر للجوء إليه مرة أخرى ولذلك تقصفهم يومياً لإبادتهم على طريقة الرجل الأبيض وسكان الولايات المتحدة وأستراليا وكندا الأصليين.
في كل تاريخ الشعوب التي تعرضت للاحتلال لا يمكن التركيز على قتل فكرة المقاومة قبل إنهاء الاحتلال الذي يجثم على صدور البشر ويجعل الموت أسهل من التهجير والنزوح وتدمير المنازل فوق رؤوس أطفالها ونسائها. حين احتلت إسرائيل بيروت وجزءاً من جنوب لبنان في عام 1982 لم يكن حزب الله موجوداً ولكنه وُجِد بعد ذلك للدفاع عن حرية وكرامة لبنان والتصدي لاحتلال إسرائيلي مهين وفعلاً تمكنت المقاومة من إنهاء الاحتلال عن جنوب لبنان وتحرير الأرض اللبنانية في عام 2000 .
أما الخلط بين المقاومة والإرهاب من قبل الصهاينة فهو مقصود لتجريد حركات المقاومة من مشروعيتها؛ الإرهاب هو ذلك الذي صدّرته أجهزة المخابرات الغربية لكل من سورية والعراق والذي صدرت في تبريره فتاوى الإرهابيين المتأسلمين والذين ينضوي دورهم على تشويه صورة الإسلام وتشويه صورة المقاومة. أما المقاومة فقد كانت عبر التاريخ والجغرافيا حقاً مشروعاً لأي شعب يرزح تحت الاحتلال كي يستعيد سيادته على أرضه وحريته وكرامته.
إن مواقف النخبة الغربية التي تتمنع من أن تطبق نظرياتها هي على ما يحدث في فلسطين تعتبر نتاج ترهيب صهيوني لكل من تسوّل له نفسه قول الحقيقة ولكن التاريخ يسجّل ولا شك أن مسؤولية الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مدى عام ونيف واليوم تطال الشعب اللبناني هي مسؤولية أخلاقية لكل مفكري وفلاسفة ومسؤولي العالم وهي مسؤولية مجتمعية وإنسانية. كل طفل يقتل في فلسطين يعني قتل مشروع عالم أو مفكر أو فيلسوف، وكل نفس إنسانية من المحرم قتلها فكيف يقبل الغرب برمّته الصمت عن مجازر يومية تمثّل اعتداءً صارخاً على أطهر وأقدس مخلوقات الله عزّ وجل؟ إذ قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً الملائكة عن الإنسان: “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”. والعدوان على هؤلاء الأبرياء أصحاب الأرض الأصليين هو عدوان على روح الله فهل يخشى المثقف الغربي الإرهاب الصهيوني ولا يخشى من إسناد الظلم الواقع على روح الله؟ إنه امتحان حقيقي للثقافة الغربية وما يسمى بـ “الحضارة” والمواقف الغربية، وكل نفس وروح تزهق تقع مسؤوليتها على المجرمين والمساندين للإجرام والساكتين عنه أيضاً.
مرة أخرى يسلب الغرب الإنسانية كنوزاً بشرية وثقافية وحضارية من المستحيل تعويضها ليبقي على هيمنته وإحكام قبضته على مقدرات الدول والشعوب. ولكنه لن يُفلح هذه المرة لأن الشعوب قررت ألا تستكين له أبداً بعد اليوم.