ترجّل الأستاذ وليد المعلم بعد عمر من الدبلوماسية والعمل لإنصاف الوطن وإيصال صوته الحقّ إلى المنابر العربية والدولية وحيثما استدعى الواجب الوطني. خمسون عاماً ونيّف هو عمره في السلك الدبلوماسي منذ أن انضمّ إلى وزارة الخارجية بعد نيله الشهادة في الاقتصاد والسياسة من جمهورية مصر العربية؛ فبحث في تاريخ سورية وكتب عدة كتب وبقي طيلة حياته مهتماً وباحثاً ليس فقط في التاريخ الذي قرأه وإنما في صياغة تاريخ ومواقف جديدة تعبّر عن أحقية المعارك الداخلية والخارجية التي خاضتها سورية ضد كافة أشكال العدوان التي استهدفت مكانتها وجغرافيتها وتاريخها وحضارتها.
وحمل الملفات التي كلف بها بأمانة وصدق وهدوء ومثابرة ورباطة جأش. وكعاشق للتاريخ كان يعلم أنه لا يمكن لأحد مهما عظمت شكيمته أن يحوّل مجرى الأحداث دفعة واحدة إلى حيث يريد ويشتهي ولكن المهم في الأمر هو ألّا تجرفه الأحداث أو تحيده عن مساره او تعصف به إلى حيث يخطط ويريد له الآخرون، ولذلك وانطلاقاً من هذا المفهوم المغروس في وجدان وضمير الأستاذ وليد المعلم لم تثنه الظروف ولم تؤثر عليه الضغوط والعقوبات وحتى لم تزعجه لأنه كان يعلم أنها فصل طبيعي من فصول المعركة التي تخوضها سورية مؤمناً أن سورية التي قاومت ودحرت كلّ الغزاة والطامعين على مدى عشرة آلاف عام لن يتمكن منها الأعداء أبداً حتى وإن خسرت جولة أو جولات في معركة مستمرة؛ فلا شكّ أن النصر سيكون حليفها في النهاية وأنها هي الصخرة الراقدة على كتف المتوسط وفي قلب العالم ولا يمكن لأحد أن يزحزحها عن هذه المكانة التي حققتها بدماء شهدائها وآهات جرحاها على مرّ العصور.
أول مركز يستلمه الأستاذ وليد في وزارة الخارجية كان مدير المكاتب الخاصة لوزير الخارجية آنذاك الأستاذ فاروق الشرع وقد تعرفت عليه في هذه المرحلة في عام 1988 حيث تعاقدتُ مع الوزارة مترجمة ومستشارة لوزير الخارجية وعملنا سوياً على مدى سنتين في اللقاءات وحضور الاجتماعات الدولية واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وكنت وإياه نعدّ المحاضر ونعمل على إعداد وترجمة الكلمات وتحضير اللقاءات الإعلامية للوزير، وكان بالإضافة إلى مهنيته دمثاً وزميلاً ودوداً لا يبخل بأي معلومة ولا تستفزه الأخطاء والهنات الصغرى بل يعتبرها ملح العمل وجزءاً لابدّ منه، وكانت علاقته مع الجميع جيدة حيث يحترمه الجميع ويتعلمون منه ويصغون أيضاً إلى نصائحه. ومن ثمّ غادر سفيراً للجمهورية العربية السورية في واشنطن في عقد التسعينات حين كانت اللقاءات مطولة في عملية السلام التي خاضتها سورية في واشنطن وكانت علاقاته واسعة عربياً ودولياً ويحضر في كل عام اللقاءات التي يجريها الوزير في الأمم المتحدة حيث كنا نعمل ونناقش ونتوصل إلى أفضل الصيغ والقرارات. ورغم كونه سفيراً لبلده فقد كان يُشعر الجميع أنه عضو في فريق متجانس ومتعاون، وأنّ المهمّ هو أن نتوصّل في حوارنا إلى أفضل ما يمكن لنا أن نضعه في خدمة بلدنا، مترفّعاً عن الصغائر ومركّزاً على الأهداف السامية التي نعمل على تحقيقها.
ثمّ بعد عودته من السفارة أصبح معاوناً لوزير الخارجية وكنت أنا مسؤولة المكتب الإعلامي في وزارة الخارجية وناطقة باسم وزارة الخارجية وبعدها التقينا زملاء في مجلس الوزراء حيث أصبح وزيراً للخارجية وكنت وزيرة للمغتربين، ومن ثمّ عملنا معاً خلال العدوان السافر المتواصل على سورية منذ عشر سنوات التي ترأّس فيها أبو طارق اللجنة السياسية التي أشغل عضواً فيها، وكانت اجتماعاتنا دورية لمناقشة كلّ الأمور السياسية التي تهمّ البلاد. في هذه المسيرة الحافلة كان الأستاذ وليد مخلصاً لوطنه، وأميناً على توجيهات السيد الرئيس، ومعنياً في العلاقة مع الحلفاء والأصدقاء، وفي كلّ ما من شأنه أن يضيف عناصر قوّة إلى وطننا المستهدف والجريح بسبب أطماع الغزاة المعتدين. وكان موقناً كما برهنت تصريحاته في جنيف، وقبلها وبعدها، أنّ الحملة الغربية على سورية وأدواتها المحلية والإقليمية لن تتوقّف إلا من خلال الانتصار عليهم جميعاً كما حدث قبل ألف عام، ولذلك لم يطلب ودّهم ولم يكن مسايراً للغرب وذلك لإدراكه العميق بالواقع والتاريخ أنّ الغرب هو الذي يقف وراء كلّ ما تعرّضت وتتعرّض له سورية عبر التاريخ، وحالياً من حروب وعدوان وإرهاب، وأنّ أيّ تصريحات لهم خلاف ذلك يجب تفسيرها من باب الترويج الإعلامي لديمقراطيتهم، وتبرئة أنفسهم من الجرائم التي يرتكبونها بحقّ شعبنا سواء مباشرة أو من خلال أدواتهم الإرهابية والعثمانية والصهيونية.
إنّ أهمّ صفة أجمع عليها الأهل والأصدقاء والزملاء بعد رحيله هي أنّه كان صديقاً صدوقاً لزوجته وابنته وأبنائه وزملائه ومدرائه، وكلّ من عمل معهم؛ إذ كان ودوداً هادئاً مدركاً لتعقيدات الأحداث والزمن الذي لا بدّ منه لمعالجة هذه التعقيدات وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، فالمهمّ في الأمر بالنسبة له هو الثبات والصبر وألّا تهن العزيمة أو تضعف الشكيمة مهما واجهنا من صعوبات وأوقات قاتمة وأن يبقى الإيمان بالنصر متجذّراً في عقولنا وقلوبنا، مجسّداً بذلك ما صرّح به الرئيس حافظ الأسد مرّات عدّة أنّ الجولان سوريّة، وإذا لم نتمكّن من تحريرها اليوم فلن نوقّع صكاً بالتخلي عنها للأعداء لأنّ الأجيال القادمة سوف تحرّرها دون شكّ.
بهذه المسيرة الهادئة والصلبة والمتوازنة على مرّ السنين، مثّل الأستاذ وليد المعلّم سورية الراسخة المتجذّرة في قلب العالم وأعماق التاريخ المطمئنة إلى أنّها باقية ومنتصرة مهما عصفت بها الأيام، وأنّ الأعداء والغزاة هم المندحرون لأنّ أرضها الطاهرة لم تصمت يوماً على ضيم، ولم تركن تحت نير احتلال او استعمار أو استيطان، بل لفظته ولو بعد حين، وعادت أشجار زيتونها لتنتج ثمراً طيباً من بلدة طيبة حباها الله بكلّ مقوّمات البلد الطيب الطاهر الودود لأهله ولكلّ محبي السلام في العالم، والقاهر لأعدائه ولكلّ المعتدين والظالمين.
رحم الله الأستاذ وليد المعلم الذي كان يحلم بأن يكون لبنة من لبنات بناء وصمود وانتصار هذا البلد، فكان له ما أراد من خلال مسيرة كرّسها لإعلاء صوت الوطن وإثبات حقّه وأهليته للريادة عربياً وإقليمياً.