يتساءل بعض المهتمّين بما يجري في سورية هل هيئة تحرير الشام هي ذاتها جبهة النصرة، وهل هي فرع من تنظيم القاعدة أم تنظيم داعش الإرهابي، وهل قوامها هو من المرتزقة من دول آسيا الوسطى ومن شذاذ الآفاق، أم من الذين جنّدتهم مخابرات العثمانية الجديدة والمخابرات الغربية تحت مسميات وأقنعة مختلفة وكاذبة؟ ويتساءل آخرون ما علاقة هذه التسميات وهذه العصابات بالاتفاق الذي وقّعه أردوغان مع بوتين عام 2020، والذي تعهّد أردوغان من خلاله بالتمييز بين مجموعات في شمال غرب سورية تطمح لقيادة انتقال سياسيّ، وأخرى إرهابية لا ترى سوى القتل والتدمير سبيلاً للتغيير، ولكنّ هذا لم يحدث، وأردوغان لم يقدّم تمييزاً بين فئة تكفيرية وأخرى لسبب بسيط هو أنه لا فرق بينهم بالفعل، وأنهم جميعاً أدوات مستقدمه لتحقيق أهداف تحالف الصهيونية والعثمانية الجديدة والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الطامعة في الجغرافيا السورية وموقعها الاستراتيجي والذي هو مفتاح لإعادة رسم خريطة المشرق العربيّ كما يزعمون ويتوهمون ويحلمون.
من هنا فان انفلات الإرهاب مرة ثالثة من عقاله والزّجّ به على الأرض السورية المقدّسة متزامناً ومتلاحقاً مع عدوان صهيوني متكرّر ومستمرّ لمواقع مختلفة على مساحة الجغرافيا السورية، تحت أعذار ومسميات وذرائع ما أنزل الله بها من سلطان، هو عمل دولي مخطّط ومبرمج ومموّل من المؤسسات الأمنية الحكومية الغربية بهدف تصنيع كيانات مصطنعة تابعة وأخرى منافقة في المنطقة لا علاقة لما تقوله وتبثّه في الإعلام بما تخطّط له وتقوم به فعلياً، وبكلّ تصميم على أرض الواقع. لقد كان واضحاً خلال العقد الماضي أنً استهداف سورية على أيد إرهاب متطرّف كان له ركيزة أساسية هو تركيا التي وصل كلّ الإرهابيين على أرضها قبل أن يعبروا لصبّ جام حقدهم المتطرّف على سورية وتاريخها ومنشآتها، وأنّ تركيا هي التي دخلت بجيشها وسيطرت على إدلب بالتعاون مع أدواتها الإرهابية تماماً، كما تمّ استحضار جيش أمريكي مع أدواته من إرهابيين في الشمال الشرقي والتنف، وانفصاليين لمحاولة متابعة تحقيق ذات الهدف؛ ألا وهو إضعاف سورية ومحاولة إخراجها من معادلة المقاومة ومعادلة التحرّر العربي وعروبة المنطقة ومستقبل أبنائها.
منذ مؤتمر سوتشي واجتماعات أستانا والعثماني الجديد يراوغ ويدّعي حرصه على علاقات جيّدة مع سورية ويقول بلسانه عكس ما هو في قلبه وذهنه من مخطّطات آثمة وشريرة لنشر الأخونة في سورية، وتحويلها إلى أفغانستان ثانية يتقاسم وأسياده الصهاينة والأمريكيون والناتو هذا البلد وتاريخه وجغرافيته ومكانته وإمكاناته الهائلة. ولكننا اليوم نشهد تناغماً غير مسبوق بين جيش مموّل ومنظّم ومدرّب من الإرهابيين والذين ليسوا فقط جبهة نصرة ولا تحرير الشام ولا قاعدة ولا داعش، بل أدوات أنظمة ودول، وبين تصريحات أردوغان، الذي يريد أن يبني على إرهابهم لفرض حلول على سورية أو تقسيمها كما حلم أسياده الغربيون منذ مئة عام، وبين هؤلاء ومحاولاتهم السيطرة على الجغرافيا السورية. ولا شكّ أن تنظيم هؤلاء وإعلامهم ولباسهم ومعداتهم وإمكاناتهم تُري بما لا يقبل الشكّ أنهم جيش منظّم ولديه خطّة مرسومة وواضحة ومفصّلة وكلّ ما على هؤلاء الشراذم هو أن يفنّدوا هذه الخطة كي يبدأ العثماني الجديد بالحلّ الذي يرتأيه هو لسورية، والذي يضع سورية تحت الـسيطرة العثمانية مرة أخرى خدمة للتوسّع الصهيوني على حساب الأرض العربية.
هذا التحليل يعني دون شكّ أنّ الخطّة هذه ليست لسورية وحدها، ولكنّها حُكماً لسورية والعراق ولحلب والموصل وما وراءهما من بلدان عربية غنية يسيل لها جشع المستعمر. ولكي يحقّق ما كان يهدف إليه، وهو ينفّذ العدوان تلو الآخر على لبنان مع استمرار حرب إبادة مشينه في غزة وفلسطين ولبنان، وهو أنه لن يتوقف إلى أن يستكمل الخطة ألا وهي تغيير وجه المشرق العربي إلى وجه صهيوني غربي، وإعادة تثبيت القطب الواحد على رقبة الإنسانية جمعاء، مما يعني أنّ ما تتعرّض له سورية اليوم بعد فلسطين ولبنان يجب ألا يعني سورية وحدها أبداً بل يجب، وبحكم الضرورة والمصلحة ومعركة البقاء، أن يعنيَ كلّ الناطقين بالضاد وكلّ الحلفاء والأصدقاء والمعنيين فعلاً برسم مستقبل شعوبهم للأجيال القادمة.
لقد تأخر كثيراً التآزر والتعاضد بين المستهدَفين لأنّ البعض منهم يأخذ على محمل الجدّ سرديات كاذبة منافقة يتمّ بثّها على أوسع نطاق في الإعلام فقط لخلق البلبلة والتشويش على البوصلة، وكي لا يتوصّل الكثيرون إلى عمق وحقيقة ما يجري على الأرض، وإلى الهدف الأعمّ والأشمل من هذا الاستهداف. فقد كان استهداف ما يسمّى بـ “الأقليات” في سورية عنصراً أساسياً من عناصر الأعمال الإرهابية في العشرية الأخيرة؛ فقد تمّ تهجير سكّان ثلاثين قرية من الآشوريين في الشمال الشرقي وتمّ ذبح الأزيديين والصابئين، وتهجير أعداد كبيرة من المسيحيين من العراق وسورية في ضربة مباشرة للعيش والوئام المشترك الذي عاشته بلداننا وأبدعت به شعوبنا في معظم بلداننا العربية. أما اليوم فقد أتى الإرهاب متلبّساً لبوس تفهّم وضع الاقليات واحترام طقوسها وطمأنة أهليها، ولكن هذا كلّه فقط إلى حين يتمكّن من تثبيت أدواته، ومن تم الكشف عن وجهه الحقيقي حين تكون المعركة معه بعد حين بالغة الصعوبة، ودحره أصعب بمرات من دحره اليوم وفي أول الطريق.
حين يصرّح العثماني المنافق أنّ هؤلاء يريدون دمشق ويريدون الحكم فهو بذلك يستكمل خطة ما أسموه ربيعاً عربياً وهو حرب إرهابية قاسية، كما يصبّ في نفس إطار خطّة نتنياهو وكونداليزا رايس من قبله لتغيير وجه الشرق الأوسط وولادة شرق أوسط جديد يشبه ما ولّدوه في أفغانستان من أنظمة تكفيرية تأتمر بأمرهم، وتنفّذ أجندتهم وتنفي قرارات ومواقع بلدانها رهن أطماعهم واستخداماتهم التي يقررون، وتلغي مرة وإلى الأبد أيّ قرار مستقلّ لهذه الشعوب أو حتى إمكانية انتفاضها على من يستخدمون كل ما تمتلكه من تاريخ وجغرافيا وثروات لصالح تعزيز قدرة السيد و استعباده للشعوب الأخرى استعباداً مُحكماً بغطاءات ولغات وإعلام وذرائع تخدم أهدافه فقط.
هذا هو جوهر المعركة الدائرة اليوم في سورية؛ فهي معركة بقاء لسورية وللعرب والعروبة والمقاومة وعالم متعدّد الأقطاب وعادل ومتوازن من جهة، وبين أنظمة تكفيرية عثمانية صهيونية تلبس لبوساً مختلفاً بين فلسطين وسورية لبنان والعراق ولكنها واحدة في الجوهر والهدف والخطة والمصير الذي تعمل على تحقيقه بشتّى الوسائل والطرق.
المعركة في سورية جوهرية ليس لأبناء سورية فقط وإنما لأبناء العرب جميعاً ولكلّ الذين لا يريدون تفريطاً بالعيش المشترك الجميل، ولأحرار العالم الذين يطمحون إلى بناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب تسوده العدالة والتشاركية. الشام شامة الدنيا وستكون السهم الحاسم الذي يقلع عيون الحاقدين والطامعين بأرضنا وتاريخنا وديارنا وسينال أهلها شرف قلب السحر على الساحر، وشرف إحقاق الحقّ والانتصار للكرامة والسيادة والاستقلال.