مازال الكثيرون حتى ومن المعنيين بالشأن العام أو الشأن السياسي يسألون الأسئلة التقليدية ذاتها التي اعتادوا على طرحها منذ عشرات السنين رغم أن العالم قد تبدّل بشكل شبه كليّ وكأنهم لا يرغبون بالاعتراف بهذا التبدّل أو لا يلحظونه أو لايريدون مواجهة الأسئلة الصعبة التي يفرضها. فمنذ أسابيع وبعضهم يسأل هل تتوقعون أن يوجّه ترامب ضربة إلى إيران قبل انتهاء فترة ولايته؛ ويتبرع البعض بالإيضاح أنّ الولايات المتحدة لن تقدم على ضرب إيران لأنّ القواعد الأمريكية في الخليج تقع في المجال الذي تطاله الصواريخ الإيرانية، ولكنّ أحداً لم يسأل كيف يمكن أن توجّه الولايات المتحدة ضربة إلى إيران. وقد لاحظتُ غالباً أن مسألة الكيف مهملة لأنها صعبة التشخيص وصعبة الوقاية أو العلاج.
لقد تغيّر أسلوب الحروب تغيراً جذرياً في العشرين سنة الأخيرة، ولم تعد الحروب على الحدود هي السمة الأساسية للصراع بين الدول، بل اجترحت الدول الغربية الاستعمارية لذاتها أدوات جديدة أنفقت سنوات في البحث العلمي والتخطيط للتوصل إليها وإتقان سيناريواتها وتقييم النتائج مقارنة بالتكلفة بحيث أخذت هذه الأدوات تحلّ شيئاً فشيئاً مكان الحروب التقليدية والهجمات النظامية عبر الحدود والجبهات الرسمية. ولكنّ المتلقّين لهذه الضربات الجديدة والمختلفة والمتنوعة والداخلية غالباً وعبر أدوات محلية في معظم الأحيان لم يعكفوا بعد على دراسة هذا الأسلوب الجديد من الحروب، ولم يكرّسوا له الإمكانات والخطط والعقول المدبرّة كي ترتقي أساليب المواجهة إلى حجم وذكاء وخطورة أساليب الهجوم والعدوان. ومن المفهوم حتماً أنّ هذا التغيير هو تغيير كبير في مسار الأحداث التاريخية ويتطلب أوّل ما يتطلب الجرأة على الاعتراف بواقع جديد أكثر تعقيداً وخطورة ودهاء مما ألِفناه واعتدنا عليه في الماضي، ثمّ يتطلب بعد ذلك شحذ الأدوات وتغيير حتى مسار ومواضيع الإنفاق والاهتمام للتصدّي لأمور لم تكنْ تُعتبر ذات شأن حتى الماضي القريب الذي عايشناه، وممّا يزيد من صعوبة الاعتراف بهذا الواقع الجديد هو أنّ الدول والمؤسسات التي تقع على عاتقها هذه المهمّة لا تتمتّع بالقدرة والمرونة المطلوبتين لهذه المهام الصعبة. فحتى سنوات قليلة ماضية كانت حماية الأوطان مسؤولية وزارة الدفاع في البلدان كافّة، وكان خطّ المواجهة الأوحد هو خطّ النار على الجبهة الأرضية، ولكن وبعد الحرب على يوغسلافيا ثمّ العراق، وبعد أن وضعت مراكز الأبحاث الغربية بالتعاون مع المحتلّ الإسرائيلي استراتيجيات جديدة للسيطرة على المكان من الداخل فقد اختلف كلّ شيء. فاليوم تستخدم الدول الاستعمارية عناصر مثل الدين والطائفة والعرق لتحشيد مئات الألوف من الإرهابيين المحليين الذين يقومون بدور المحتلّ الأجنبيّ في تدمير المؤسسات الوطنية وتخريب البنى التحتية ونشر الخراب والدمار وسفك الدماء. ورغم الأهمية التي لا تزال موجودة وستبقى للجيوش والقوات المسلّحة، فقد حوّلت هذه الاستراتيجية الجديدة أنواعاً من البشر والمؤسسات إلى أهداف عسكرية لم يكنْ لأحد أن يظنّها أبداً ضمن قائمة الأهداف التي يستهدفها العدوّ. والحقيقة أنّ هذا الاستهداف قديم حديث، ولكن كان مصحوباً بحروب عبر الحدود، ولذلك ربما لم يتمّ الانتباه إليه على أنّه الركيزة الأساسية لحرب جديدة بأسلوب جديد. وإذا عدنا في الذاكرة قليلاً نجد أنّ العدو الصهيوني قد استهدف بعمليات الاغتيال والتفجير والإرهاب، ومنذ عشرات السنين، السياسيين والمفكرين والأدباء والعلماء والصحفيين والمثقفين والمناضلين والعروبيين حتى وإن لم يحملوا سلاحاً في حياتهم سوى القلم أو الكلمة سبيلاً لإعلاء شأن قضيتهم. وحين دخلت القوات الصهيونية بيروت عام 1982 دمّرت أول ما دمرت المركز الثقافي الفلسطيني في بيروت، وحين دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى العراق نهبت الآثار وأرشيف السجل المدني قبل أن تستهدف كل العلماء العراقيين خطفاً وقتلاً أو إكراهاً على الخروج من البلاد إلى مواقع تخدم هذا الاحتلال في موطنه. وحين بدأ العدوان الإرهابي على سورية أيضاً تمّ استهداف العلماء والأطباء والبنى التحتية العلمية وكلّ ما من شأنه أن يشكّل مفصلاً يساهم في منعة البلاد وتقدّمها.
المطلوب اليوم إذاً منا جميعاً ومن بلداننا هو أن نعيد النظر في أساليب وأدوات المواجهة بعد أن نؤسس لبنية صالحة ومتينة في جميع المجالات وأن نخرج أولاً وقبل كلّ شيء من ثقافة الشخصنة ونتبنى ثقافة المواطنة ونعلم أننا جميعاً مستهدفون، وفي ثقافة المواطنة أن نعيد تقييم أدوار المؤسسات المعنية بالمواجهة وأن نرتبها حسب الأولويات ولاشك أن الأولوية الأولى يجب إعطاؤها للعلم والمعرفة في كافة المجالات؛ فلو رصدت البلدان العربية حجم خسارتها نتيجة إما استهداف العقول وإما هجرة العقول لوجدت أن خسارتها أكبر بكثير من خسارة الموارد المادية والنفطية والتي لا تشكل رأسمال يذكر مقارنة بالرأسمال البشري الذي يتم استنزافه كل يوم من بلداننا وبطرق مختلفة. وأنا أكتب هذه السطور أدرك أن العدو والخصوم يعتمدون قبل كلّ شيء على الاختراقات داخل بلداننا وأن تاريخنا مليء بالاختراقات التي تسببت بكوارث لبلداننا. والسؤال هو لماذا لم نتمكن نحن من اختراق صفوف أعدائنا بينما كانوا هم قادرين وعبر مراحل تاريخية مختلفة على اختراق صفوفنا وصولاً إلى رئيس وزراء البلد وولي عهد البلد أو ملكه أو رئيسه عدا الوزراء والسفراء؟ أهو فشل النظام التربوي والتعليمي والإعلامي في مواجهة الإعلام المضلّل الذي تمكن من زعزعة الأسس التي قامت عليها دول كبيرة مثل الاتحاد السوفياتي أم هي النفوس الضعيفة فقط؟ أوليس لدى الآخرين نفوساً ضعيفة ايضاً؟ ولكن لماذا لا تصل إلى حدّ الخيانة؟ في عصر وصلنا فيه إلى العجز عن إحصاء خسائرنا لابد لنا من وقفة حقيقية مع أنفسنا وتحديد الثغرات التي نفذ منها الأعداء إلى قلب بلداننا ليقتلوا علماءنا وينهبوا آثارنا ويغيّروا تاريخنا ويعبثوا بسجلاتنا، ولابدّ لنا من أن نتعامل مع كلّ مؤسسة ومفصل داخل البلد على أنه الجبهة التي تحتاج إلى تعزيز وتحصين فالمعارك الكبرى لم تعد تجري على الحدود بل داخل بلداننا فها هو الحوار الليبي في مختلف جولاته يصطدم بحائط اختيار الأسماء التي ستتولى المناصب السيادية وهذا يعني أن العقلية القبلية والإقليمية والشخصية مازالت تتقدم على المواطنة ومصلحة الوطن والمواطن.
إن الغرب يستهدفنا ولكنه أرسى أسساً لبناء الدولة وجعل كل المعنيين السابقين والحاضرين والمستقبليين أدوات لخدمة هذه الدولة، ولكنه لم يفعل ذلك فقط بل استغل ضعف أو انعدام المؤسسات الحقيقية في عالمنا العربي ليبقينا قبائل وعشائر يسهل اختراقها وتجنيدها لأجنداته ضد مصلحة بلداننا وشعوبنا. اليوم أول الجبهات هي مدارسنا وجامعاتنا التي يجب أن تحصّن الأجيال الشابة، وكل بقعة من بلداننا تعتبر جبهة يمكن أن ينفذ إليها العدو ويستخدمها لصالحه. لذلك فإن أولى الأولويات هي دراسة الواقع المستجد وفهمه وإعداد الخطط الداخلية المناسبة لمواجهته؛ إذ لا فاصل اليوم بين الداخل والخارج سوى مستوى العلم والمعرفة وكفاءة ودقة الأدوات المستخدمة في الصراع الطويل الأمد.